لم يكن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، الذي يشكو منذ وصوله إلى السراي الحكومي من "حصار" يتعرّض له داخليّاً وخارجيّاً، يتوقّع أن يستقبل في يومٍ من الأيّام رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، متضامناً ومسانداً.
ولم يكن دياب نفسه، الذي بقي "منبوذاً" طيلة فترة حكمه، ولا سيما من رؤساء الحكومات السابقين الذي أغدقوا عليه أوصافاً من نوع "الأداة" و"الدمية"، يعتقد أنّ هؤلاء أنفسهم سيخرجون لدعمه وتأييده، في أيّ ظرف وتحت أيّ عنوان.
صحيحٌ أنّ دياب "استدرج" مثل هذه المواقف عندما ارتأى التعامل مع ادّعاء المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان على أنّه "استهداف لموقع رئاسة الحكومة"، ضارباً بذلك على "الوتر الحسّاس"، إن جاز التعبير.
وبمُعزَلٍ عن الموقف القانونيّ لدياب، ومدى "عدالة" الادّعاء عليه الذي لم يتأخّر البعض في إضفاء عامل "التسييس" عليه، ثمّة من يؤكد أنّ القاضي صوّان قدّم له "هدية ثمينة" جعلته "يتنفّس الصعداء"، بعدما وجد نفسه "مقطوعاً من شجرة"!.
مشهد "خياليّ"!
باختصار، ما حصل في الأيام القليلة الماضية بدا مشهداً "سريالياً" بكلّ تفاصيله، لم يكن أصحاب "الخيال الواسع" ليتوقّعوه كنهايةٍ لـ"حقبة" حسّان دياب غير المُريحة في السراي، بعدما كان الاعتقاد الغالب أنّ الرجل، الذي قاطعه أهل بيئته قبل غيرهم، سيعتزل، مُكرَهاً، العمل السياسيّ والعامّ، بمجرّد تشكيل حكومةٍ جديدة تخلف حكومته.
ولهذه الأسباب، قرأ كثيرون في الادّعاء عليه دون غيره من رؤساء الحكومات، رغم أنّ "الإهمال" الذي استند إليه المحقّق العدليّ يفترض أنّه سبق وصوله إلى السراي بسنواتٍ غير قليلة، "استضعافاً" له بالدرجة الأولى، باعتبار أنّ الرجل الذي "انقلب عليه" من أتوا به رئيساً للحكومة، يفتقد أيّ "سَنَدٍ" سياسيّ يتّكئ عليه، أو طائفيّ يلجأ إليه.
إلا أنّ دياب عرف كيف يحوّل "النقمة إلى نعمة"، وفق ما يقرأ البعض المشهد، يوم حوّل الادّعاء عليه إلى "استهدافٍ للموقع"، في استعادةٍ لمشهديّة "الخطوط الحمراء" التي تكرّس منطق "انعدام المحاسبة"، فكانت النتيجة البديهيّة لمثل هذه المقاربة، "استنفار" العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة، و"تداعي" كلّ رموز السنّة للدفاع عن مقام رئاسة الحكومة الذي يتعرّض للاستهداف.
ولعلّ هذا المشهد فاجأ "حزب الله" الذي كان تمتّع بـ"الأسبقيّة" في الدفاع عن دياب بوجه "الاستهداف السياسيّ"، وفق توصيفه في بيانٍ مطوَّلٍ أصدره، ظنّاً منه أنّ الأخير قد يتحوّل إلى "كبش محرقة" في ملفٍّ بحساسيّة وخطورة انفجار المرفأ، باعتبار أنّه لا يحظى بأيّ "غطاء" يُذكَر، قبل أن يجد نفسه "في خندقٍ واحدٍ" مع خصومه، في مفارقةٍ مثيرةٍ للانتباه.
تحفّظات وأكثر...
إنّها "الطائفيّة" إذاً، سمحت بفكّ "الحصار" عن دياب، في اللحظة "الحاسمة"، وجعلته يحظى بدعمٍ لم يكن يتوقّع أن يحصده في يومٍ من الأيام. يُقال إنّ دياب نفسه، حين استخدم كلمة سرّ "استهداف رئاسة الحكومة" في ردّه على الادّعاء الموجَّه ضدّه، لم يكن يظنّ أنّه سينجح في "التعبئة" لصالحه، بل كان يعتقد أنّ الجميع سيتكتّلون ضدّه، على طريقة "التضحية بالأضعف"، تفادياً لوصول "الموس" إليهم، إن جاز التعبير.
لكن، إذا كانت "الطائفية" علّة العِلَل في النظام الذي يصرّ على عدم تغيير شيءٍ فيه، وإذا كان التدخّل السياسيّ في القضاء، وقد ظهر في أبهى حُلَلِه في اليومين الماضييْن، مرفوضاً من حيث المبدأ، فإنّ ثمّة تحفّظات وعلامات استفهام طرحها البعض، في المقابل، على قرار الاّدعاء "المحصور" على دياب وثلاثة وزراء سابقين، دون غيرهم بقضية انفجار المرفأ.
وفي هذا الإطار، ثمّة من سأل كيف يكون دياب مسؤولاً ومهمِلاً ومقصّراً، في حين لا يُستدعى أحدٌ من الوزراء في حكومته، علماً أن بعضهم سبق أن أعلن صراحةً أنّه عَلِم بالمواد المكدَّسة في المرفأ، مثلهم مثل دياب، وقد لا تكون "بريئة" في هذا الصدد مقارنة البعض، غير العفوية، بين دياب ورئيس الجمهورية، رغم التفسيرات القانونيّة للأمر. ولأنّ هذه المواد موجودة في المرفأ منذ سنوات، كما بات موثَّقاً، ثمّة من تساءل عن سبب عدم الادّعاء على رؤساء الحكومات الذين سبقوا دياب، علماً أنّ استدعاء وزراء سابقين دون رؤساء الحكومات أيضاً أثار التساؤلات.
وإذا كان البعض قرأ، انطلاقاً من ذلك، "عدالة استنسابية" خلف قرار المحقّق العدليّ الادّعاء على دياب والوزراء الثلاثة دون غيرهم، ولو أنّ البعض قال إنّ هذا الادّعاء ليس إلا "البداية" التي قد تعقبها جولات من الادّعاءات المتتالية، فإنّ بعضاً آخر لم يتردّد في صبغ الادعاء بالسياسة، خصوصاً من حيث التوقيت "المريب"، برأي البعض، بعد أيامٍ على انتقاد المجتمع الدولي التأخير في التحقيقات، وكأنّه محاولة "التفاف" عبر الإيحاء بأنّ القضاء يتحرّك، بدليل الادعاء على رئيس الحكومة.
لا أمل
قد تكون بعض "الملاحظات" التي سُجّلت على ادّعاء المحقّق العدلي في مكانها، لا سيما لجهة "استضعاف" رئيس حكومة تصريف الأعمال، و"حصر" الادّعاء به، مع أنّ ما ينطبق عليه ينطبق بطبيعة الحال على العديد من رؤساء الحكومات والوزراء الذين سبقوه، خصوصاً إذا تثبّتت فرضية "الإهمال" الذي بدأ منذ ما قبل وصول دياب إلى السراي.
وقد لا يكون "تفصيلاً" في هذا السياق، ذهاب بعض "المتعاطفين" مع دياب لحدّ التساؤل عمّا إذا كان القضاء سيحمّله مسؤولية كل الانهيارات التي حصلت في البلاد، بعد "تبرئة" سائر أركان الطبقة المهيمنة على الحكم منذ ثلاثة عقود، بعدما تبيّن أنّه "الهدف السهل"، ولو أنّ مخدوميّته لم تستمرّ سوى لسنةٍ واحدة، بينها أربعة أشهر كمصرِّفٍ للأعمال ليس إلا.
إلا أنّ "الملاحظات" على إخراج "الاستنفار العصبيّ والطائفي" قد تكون أكثر، وأخطر، إذ إنّها كرّست مرّة أخرى غلبة "الحسابات الطائفية والمذهبية" على ما عداها، الأمر الذي من شأنه "تكبيل" أي تحقيقٍ جدّي بانفجار المرفأ أو غيره، من شأنه توجيه أيّ اتهامٍ لأي مسؤولٍ، من أيّ درجة، عبر استحضار "الخطوط الحمراء" التي لا تنتهي.
وإذا كان التحقيق بانفجار بحجم ذلك الذي ضرب المرفأ، ونتج عنه شهداء وجرحى بالآلاف، وخسائر بالمليارات، عاجزاً عن تجاوز هذه "الخطوط الحمراء"، فإنّ الواضح أنّ "الأمل" بأيّ تغييرٍ في طبيعة النظام الطائفي المتهالك، ليس واقعياً، ولن يكون ممكناً تحقيقه، أقلّه في الأمد القريب والمنظور...