في الأيام الأخيرة، ازدادت الأسئلة في كثير من الأوساط: هذا الانهيار اللبناني المتمادي بلا ضوابط، هل سيقود إلى فوضى لا يمكن ضبطها إلّا بنوعٍ من الوصاية الخارجية؟ واستطراداً، هل هناك قوى خارجية تشجّع الوصول إلى الفوضى سعياً إلى استثمارها في فرض الوصاية؟ ومَن هي؟
حالياً، هناك طرفان يتبادلان الاتهامات بفرض الوصاية على لبنان: حلفاء إيران مقابل حلفاء الولايات المتحدة. وليس سرّاً أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب، في سعيها إلى تشديد الضغط على «حزب الله»، كانت تتلقّى «نصائح» من بعض حلفائها اللبنانيين والغربيين بعدم الدفع في اتجاه الانهيار اللبناني، لأنّ ذلك سيقود إلى سقوط المؤسسات، فتقوم طهران بملء الفراغ ويقع البلد في قبضتها كلياً.
طبعاً، مطالعة «حزب الله» مختلفة: هو يجزم بأنّ محور طهران لا تعنيه السلطة ـ بمعناها الضيّق - في الدول التي يتمدّد فيها، وأنّه معني فقط بالمواجهة الكبرى مع «قوى الاستعمار» وإسرائيل. ويتَّهم «الحزب» خصومه بأنّهم يمنحون واشنطن مبرِّراتٍ للوصاية على البلد والسيطرة على موارده وفرض التسويات التي لا تراعي مصالحه.
هذا السجال الدائر حول «الوصايتين» المحتملتين على لبنان يرتدي أهمية قصوى، في لحظة انتقال الولايات المتحدة، ليس من عهدٍ إلى آخر، بل من ذهنية إلى أخرى، حيث تراهن طهران على أن يكون جو بايدن نسخة مكرَّرة من باراك أوباما، وأن يكون تعاطيه مع طهران في الملف النووي ومسائل التسلّح والنفط والاقتصاد مماثلاً لتعاطي أوباما.
في النصف الأول من السنة الجديدة، ستتبلور تباعاً ملامح المقاربة الأميركية الجديدة للعلاقات مع طهران. لكن الاتجاه لن يُحسَم قبل الانتخابات الإيرانية في حزيران. ومن المحتمل أن يعقد الطرفان صفقة على أسس جديدة تشمل الملفات الإقليمية، بما فيها لبنان الذي سيكون قد بلغ أقصى درجات الاهتراء، وباتت كل مؤسساته مشلولة أو فارغة.
البعض يقول: في هذه الحال، سيتفاهم الأميركيون والإيرانيون على الصيغة التي سيُدار فيها لبنان. وعلى الأرجح، ستُدعى القوى اللبنانية إلى مؤتمر حوار وطني، تحت النفوذ الأميركي ـ الإيراني، ورعاية مشتركة فرنسية - عربية. وهذا المؤتمر سيكون أعمق من «طائف جديد»، لأنّه سيبتّ نقاطاً جوهرية تجاهلها «اتفاق الطائف» في العام 1989، أو هو بَتَّها وبقيت عالقة.
يعتقد هؤلاء، أنّ المؤتمر سيستدعي أن يوضع لبنان، لمرحلة معينة، تحت وصاية خارجية، بغطاء دولي وإقليمي شامل. وهذه الوصاية تكون مهمتها تنفيذ الاتفاق وإعادة بناء البلد ومؤسساته ومرافقه. ووجودها يشكّل ضماناً للقوى المانحة لكي تقدّم المساعدات.
بعد انفجار المرفأ، ظهرت أصوات وتمّ توقيع عرائض تطالب صراحةً بإعادة لبنان إلى الانتداب الفرنسي. وفي أي حال، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتصرّف مع القوى السياسية اللبنانية براحةٍ و»مَوْنة» ربما لم يتمتع بمثلهما الجنرال غورو.
وفي كثير من الأوساط، هناك كلام على الحاجة إلى تدويل الأزمة اللبنانية لفترة معينة. وبموجب ذلك، تقوم القوى الدولية بإدارة البلد مباشرة، ومن دون المرور بالحكومة والقوى السياسية. وهذا الخيار يحظى بترحيب القوى الغربية وحلفائها في لبنان، لكنه يستفزّ الآخرين.
المثير للقلق هو أنّ الحديث عن الوصايات يمكن أن يبدأ في مكان وينتهي في مكان آخر. ففي الماضي استسهلت القوى الدولية والعربية فرض وصاية دمشق على لبنان. وخلال مرحلة الوصاية، كانت ترتفع أصوات المعارضة اللبنانية مطالِبة برفعها، لكن القوى الخارجية كانت تصطفّ مع السوريين، وتحرص على دوام الوصاية «لأنّ الظروف تقتضي ذلك».
لذلك، هناك لبنانيون «ينفخون اليوم على اللبن، لأنّ الحليب كواهم». ومع انتقال العهود أميركياً وإيرانياً وعربياً، هناك مَن يخشى صفقات جديدة يكون لبنان ضحيتها.
ومعلوم أنّ الرئيس بشّار الأسد « لم ينَمْ على ضَيْم»، عندما أجبرته إدارة الرئيس جورج بوش على الخروج من لبنان في ربيع 2005. فهو لم ييأس من محاولات «تصحيح الخطأ» والعودة، إما مباشرةً بـ»تلزيمه» الملف اللبناني مجدداً، وإما بطريقة غير مباشرة أي بتولّي حلفائه السلطة، ما قد يتيح له لاحقاً تجديد «التلزيم» المباشر.
وعندما اندلعت الحرب في سوريا عام 2011، راهن كثيرون على أنّها ستطيح الأسد. لكن ذلك لم يتحقَّق. وصحيح أنّ هذه الحرب أعاقت طموحه إلى التمدُّد نحو لبنان، لكن محور طهران حقَّق هذا الهدف. وقال مستشار المرشد، علي أكبر ولايتي: «نحن نمسك بالقرار في 4 عواصم عربية»، بينها بيروت. وقبل أيام، ذكّر بأنّ نفوذ إيران يمتدّ «على خط طهران - بغداد - دمشق - بيروت - فلسطين».
إذا أبرم الإيرانيون والأميركيون صفقة، فبالتأكيد ستشمل لبنان، وسيكون الإسرائيليون في أجوائها. وإذا وافق الأسد- مثلاً- على التطبيع مع إسرائيل… وتمّ التطبيع بينه وبين العرب، فما المانع من مكافأته في أماكن معينة، ومنها لبنان؟
إذاً، في حقل الألغام، أي تسوية يمكن الركون إليها؟ وهل هناك مجال لإنجاز رعاية دولية توافقية للبنان لا تنفجر؟