من يراقب حركة تركيا في الفترة التي اعقبت الانتخابات الأميركية يجد ان اردغان يتصرف وكأنه في سباق مع الوقت ويريد ان يقفل ملفات او يستجمع أوراق الى اقصى ما يمكنه جمعه قبل حلول الحاكم الجديد في البيت الأبيض الأميركي، لان اردغان يعرف أي علاقة تربطه بهذا الحاكم ويعرف مدى التباين بين المشروع التركي الخاص الذي يعمل من اجله والمشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والذي تعمل عليه بشكل واضح منذ العام 2010 في ظل حكم الديمقراطيين لاميركا وبوجود بايدن نفسه في مقعد نائب الرئيس الأميركي.
وهنا نتذكر بانه عندما اندفع اردغان في العام 2011 في قيادة العدوان الإرهابي على سورية تنفيذا لخطة اطلسية بقيادة أميركية ظن ان الغرب والحلف الاطلسي الذي ينتمي اليه فوضه بحكم المنطقة وإقامة او استعادة الإمبراطورية العثمانية البائدة التي كان "الحلفاء" الأوربيون قد انزلوا الهزيمة بها وتقاسموا ممتلكاتها ومناطق احتلالها في غربي اسيا خاصة وكامل الشرق الأوسط بالمصطلح الغربي عامة.
تصرف اردغان في سورية ، و منها في كامل المنطقة منذ اندلاع الحريق العربي (يسميه الغرب "ربيع عربي" ) تصرف على أساس انه سلطان المستقبل وبهذه الذهنية انقلب على تفاهماته و توافقاته الاستراتيجية مع سورية وقاد العدوان الإرهابي عليها ، وهنا كان التباين المستتر والخفي بين الظن التركي والتكليف الغربي الأطلسي ، ففي حين عمل اردغان بذهنية العمل لاستعادة سلطنة غابرة ، كان الغرب يريد من اردغان لعب دور راس الحربة والقائد الميداني لاسقاط محور المقاومة و تفكيكه من البوابة السورية التي تشكل القلعة الوسطى لهذا المحور ، هدف تحتاجه اميركا من اجل إقامة النظام العالمي الأحادي القطبية وتعويض الإخفاق الذي عانت منه في افغانستان و العراق و لبنان .
وعلى هذا الأساس كانت الحرب الكونية التي استهدفت سورية منذ العام 2011 موضع تباين في النظرة من كل من الجانب التركي والاطلسي، و كانت عرضة للتنازع الخفي بين مشروعين، مشروع تركي يقوده اردغان الحالم بإزالة اثار الهزيمة التي انزلت بالعثمانيين في الحرب الأولى ، ومشروع أطلسي بقيادة أميركية جوهره تثبيت انتصار الغرب في الحربين العالميتين و تدمير القوى المقاومة للاستعمار والسيطرة الغربية وإنتاج بيئة تصفية القضية الفلسطينية، ويلتقي هذان المشروعان في سورية بشكل خاص على هدف اسقاط النظام السوري بقيادة الرئيس الأسد، لكنهما يتنافران بدرجات متفاوتة في أكثر من مكان وإقليم.
بيد ان اردغان عندما فشل في سورية في موجة العدوان الأول عليها في سياق ما اسميناه يومها "استراتيجية الاخوان المسلمين للسيطرة على سورية"، وجد نفسه عرضة لسحب التفويض الغربي منه ونقله الى السعودية التي جربت حظها مع سورية في سياق ما اسميناه "خطة بندر"، الخطة التي لم تكن أفضل حظا من خطة الاخوان، والتي انتهت الى فشل دفع اميركا الى النزول مباشرة الى الميدان وانشاء تحالف عسكري بقيادتها بعد ان اصطنعت المبرر ودخلت في المرحلة الثالثة من العدوان على سورية والعراق هي "مرحلة داعش".
لم يكن اردغان مرتاحا للشعور الذي تشكل لديه نتيجة الفشل والاحساس بالتهميش الغربي له، واغتنم فرصة مد اليد الروسية والإيرانية له وانتظم في ثلاثي استنة المشكل لمعالجة الوضع السوري ميدانيا، ورأى ان ذلك يمنحه الوقت للمناورة الزئبقية ويتيح له العمل بطلاقة أكثر لتنفيذ مشروعه الخاص في سورية ومنها لنشره في الإقليم بعيدا عن المحددات او القيود الغربية. وقد نجح اردغان في استثمار موقعه في استنه الى حد بعيد ورغم التباين مع قطبي استنة الاخرين إيران وروسيا في أكثر من موضوع فقد بقي على علاقة معهما لا تتصف بالحميمية لكنها غير صدامية، علاقة يحتاجها من اجل مشروعه الخاص كما ذكرنا.
لقد مارس اردغان مع كل من عمل معه في الشرق والغرب بسياسة سمتها الرئيسية الزئبقية المتقلبة، بحيث انه لم يجد نفسه مضطرا للإيفاء بوعد او لتنفيذ عقد او عهد وعمل بنفس ميكافيلي خالص باعتبار "ان الغاية تبرر الوسيلة" وظن ان "ذكاؤه النشط" يجعله يحقق أهدافه دون ان يعرضه الى أي خطر جدي، أي انه يخدع الاخر ويجعله يعطيه ثم يسكت على عدم الاخذ المقابل، معتقدا ان الاخر بحاجة الى صداقته اوعلى الأقل عدم عدواته نظرا لموقعه وتأثيره في المسرح الاستراتيجي الذي يتحرك فيه.
بيد ان الأمور الان وصلت الان الى نقطة لا يستطيع شركاء تركيا في الملفات المشتركة السكوت عنها او مدارة تركيا فيها، ما جعل الانتصارات او الانجازات التركية السابقة عرضة للنقض او الانهيار، وقد أحس اردغان بالخطر الاتي واستشعر الحاجة لتدابير سريعة تحصن وضعه ولهذا نراه الان:
- يعود الى مغازلة اروبا من الباب الألماني بعد التهدئة مع اليونان لتجنب المواجهة الحادة مع اروبا بعد ان وصلت علاقته بفرنسا وبماكرون شخصيا الى أدني واسوا مستوياتها، وهو يظن بان المانيا التي ليس لها طموحات شرق أوسطية اقله حاليا لن تكون له منافسا في مشروعه الخاص، ويريد من اروبا الان ان تكون الظهير الاحتياطي الذي يعوضه بعض الشيء عن الحضن الأميركي الذي يخشى برودته وجفافه مع بايدن.
- يسرع في تقويض الكيان الكردي الانفصالي في شمالي شرقي سورية قبل ان يصل بايدون الى البيت الأبيض، لآنه يعرف بان مشروع بايدون هناك يقوم على استراتيجية التقسيم وإقامة الكيان الكردي المستقل او شبه المستقل برعاية أميركية صهيونية، الامر الذي يخشى منه اردغان لآنه يرى فيه مسا بالأمن القومي التركي.
- يعيد انتشار قواته في ادلب بشكل يخفض تداخلها مع الجيش العربي السوري على خطوط التماس ويقيم الخطوط والمواقع الحصينة المدعومة ناريا بشكل فاعل ليمنع أي محاولة سورية روسية لاستعادة المنطقة عسكريا بعد فشل المحاولات جميعها لاستعادتها عبر منصة استنة واتفاقات سوتشي وموسكو.
- يهدئ الصراع الذي فجره في اذريبجان ويكتفي حاليا على حد وصفه "بالإنجاز الذي حققه في ناغورنو كارباخ “، متوعدا بالمزيد عندما تسنح الفرص.
بالخلاصة نرى اردغان الان في مرحلة مراجعة مواقفه بحثا عن اجراءات متطورة من المشروع الغربي من اجل صياغة مشروع وسط في المنطقة يجمع العناصر الرئيسية للمشروع التركي العثماني الخاص والمشروع الأطلسي الأميركي بحيث يحد من وجوه التناقض او التنافر بينهما ويمنع الاحتكاك او التناقض مع الغرب وبشكل لا يبقى مبررا له لاتخاذ المواقف الحادة منه وصولا الى فرض العقوبات الغربية على تركيا كما حصل الان. فهل ينجح اردغان في سعيه هذا؟
قبل الإجابة نذكر بان الحلف الأطلسي الذي اسسته 12 دولة اروبية و أميركية قبل تركيا فيه ليس حبا بها او خدمة لها بل نتيجة احساسه بان تركيا تستطيع ان تقوم بوظيفة و دور أساسي في خدمة مهمة الحلف الدفاعية و اهدافه في وجه الاتحاد السوفياتي واراد المؤسسون امتلاك قاعدة عسكرية متقدمة تشكل جزءا من الستار الحديدي الذي اقامه الغرب في وجه الشيوعية ، وبالتالي كانت عضوية تركيا في الحلف الأطلسي ناشئة من حاجة اطلسية لتركيا للقيام بدور وظيفي عملاني و استراتيجي ، و لهذا جذب تركيا اليه كأول دولة بعد تأسيسه في العام 1994، و قبلها في عضويته في العام 1952 من اجل هذا الدور الوظيفي و لم يقبلها من اجل ان يمنحها فرصة منازعته النفوذ .
فتركيا في الأطلسي لخدمة اهداف الدفاع عن اروبا أصلا ولخدمة الأهداف الأميركية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي حاضرا وليست من اجل استعادة الإمبراطورية العثمانية التي اسقطتها اروبا، وعليه فان أي عمل او محاولة توحي بان اردغان يعمل في سبيل ذاك الهدف لن تلقى من اروبا والأطلسي الا الرفض والمواجهة، فالغرب الذي قاسى الكثير من دولة بني عثمان لن يقبل بسهولة إعادة احيائها باي شكل وباي صورة. وبالتالي لا مجال للمواءمة بين الطموح الاردغاني والنزعة الغربية وهما امران متناقضان. وهذا ما سيفرض على تركيا الاختيار بين التخلي عن مشروعها الخاص او التخلي عن التوجه غربا اما الجمع بين النقيضين فلن يكون ممكنا فأي خيار ستختار؟