كما كلّ شيء في هذا العام الذي قد لا يكون مسبوقاً في التاريخ الحديث، حلّ عيد الميلاد المجيد "استثنائياً" بكلّ تفاصيله، ليس على اللبنانيّين فحسب، ولكن على العالم بأسره.
فرض فيروس كورونا "أجندته" على أجواء العيد، فكانت الاحتفالات به مقتضبة في شتّى أنحاء العالم، مثقلة بالكثير من القيود والإجراءات، ومغلَّفة بـ"غصّة وحسرة" على أحوالٍ صعبة، فيما اقتصرت القداديس على حضورٍ "محدود"، وفقدت الجلسات العائلية الكثير من "صخبها".
لم يشكّل لبنان "استثناءً" في هذا الإطار، فالعيد هذا العام لا يشبه غيره من أعياد الأعوام السابقة، بسبب كورونا وما فرضته من تباعد بطبيعة الحال، ولكن أيضاً بسبب الظروف المأسوية التي يتخبّط خلفها اللبنانيون منذ أشهر، بين واقعٍ اقتصاديّ وماليّ تعيس، وواقعٍ أمنيّ هَشّ.
شيءٌ واحدٌ لم يتغيّر في أجواء الاحتفال اللبنانية هذا العام، تجسّد بالأداء السياسيّ العام، فخرج بين السياسيّين من يوظّف العيد في استحقاقاتٍ بديهيّة، كما فعل رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، الذي حوّل حكومته الموعودة إلى "عيديّة"، من دون أن يصدُق ويفي بالوعد...
"ليست عيديّة"!
ليست المرّة الأولى التي يترافق فيها عيدٌ ما، ولا سيّما عيد الميلاد المجيد، مع استحقاقٍ سياسيّ ودستوريّ أساسيّ، ناجمٍ عن "فراغٍ" في السلطة التنفيذيّة، علماً أنّ وجود رئيسي حكومة، مصرِّفٍ للأعمال ومكلَّفٍ بالتشكيل، بات السمة الغالبة على كلّ المناسبات، في دوّامةٍ تكاد لا تنتهي، لأسبابٍ كثيرة ومتفاوتة.
وليست المرّة الأولى أيضاً التي يقرّر فيها السياسيون والمسؤولون عن الأزمات المتتالية، "استغلال" الظرف للحديث عن "هدايا" يريدون تقديمها للبنانيين لمناسبة الأعياد، بحيث تأتي الحكومة بمثابة "عيديّة" بعد طول أخذٍ وردّ، ومعاناةٍ طويلة، بل "يوحون" بتقديم "التنازلات" فقط لتخرج الحكومة إلى الضوء في المناسبة "المجيدة".
لكن، ما على السياسيّين إدراكه، أنّ مثل هذا الكلام، ولو أتى على طريقة "الدعابة العفويّة"، بات أقرب إلى "النكتة السمجة"، فالحكومة ليست "عيديّة" ولن تكون، أولاً لأنّ تأليفها أصلاً ليس "مِنّة" من الطبقة الحاكمة للشعب، ولا "كرم أخلاق"، وإنما هو بكلّ بساطة "واجب" كان عليها إنجازه منذ أشهرٍ طويلة، وما تقاعسها وتأخّرها سوى دليلٍ إضافيّ على فشلها وعجزها، وهو ما لا يعطيها "حقّ" تحويله إلى "هديّة" وما شابه.
لكن القصّة لا تقف عند هذه الحدود، بل إنّ "النكتة" تصبح "أسمج" بأشواط، عندما ترتقي لمستوى "الضحك على الذقون"، فـ"العيدية" التي يريد البعض تصويرها "هدية للشعب"، لا تلبّي الحدّ الأدنى من طموحاته وتطلّعاته، بل هي "تتناغم" مع طموحات الطبقة الحاكمة منذ عقودٍ، باعتبار أنّ الحكومة الموعودة تؤلَّف وفق قواعد "المحاصصة" نفسها التي أوصلت البلاد إلى "الخراب" الذي يشهد تجلّياته اليوم، من دون أيّ اكتراث بواقعه ومآسيه.
ثقافة عابرة للأحزاب
ليس الحريري وحده من يُلام في تبنّي خطاب "العيديّة"، فمثل هذه "الثقافة" عابرة للأحزاب والطوائف والمناطق والشخصيّات، شأنها شأن ثقافة "الفساد" التي "تجمع ولا تفرّق" في لبنان، لدرجة أنّ أعتى الخصوم وأشرس المعارضين لبعضهم البعض، "يتلاقون" على اعتمادها، في نهجٍ لم يعُد عموماً مُستغرَباً أو مُستهجَناً.
لكنّ مشكلة الحريري، هذه المرّة، أنّه استخدم هذه "الأدبيّات" في إطار "الصراع السياسيّ" مع خصومه، ولا سيّما رئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، من دون أن يدرك أنّ "وعده" الذي ينبغي أن "يُلزِمه"، سيسجَّل عليه بالدرجة الأولى، ولو قال إنّ "الإيجابيّة" التي بثّها جاءت بطلبٍ من الرئيس عون شخصيّاً.
في النتيجة، وعد الحريري، من دون أن يعرف أحد "الأساس" الذي بنى عليه، ولم يَفِ بالوعد، ما يعني أنّ "العيدية الموعودة" التي ليست بـ"عيديّة" أصلاً، لم تكن أكثر من مادة "ابتزاز"، تُضاف إلى "مسلسل" التعقيدات التي أحاطت بالملفّ الحكوميّ منذ اليوم الأول، بعدما وجدت الحكومة نفسها "رهينة" بين اشتراطات هذا الفريق وذاك، وفق طريقة "تقاذف المسؤوليات" التي تفنّن بها الجميع، حتى أنّ معظم الخطوات على خطّ التأليف، كانت "شكليّة" وتصبّ في هذه الخانة تحديداً، ولا شيء غيرها.
هكذا، انتهت جولة "العيدية" إلى "اللعبة" نفسها، فالحريري يقول، مواربةً عبر مصادره وأوساطه، إنّ "وطاويط القصر" هي التي فعلت فِعْلها وخربت كلّ شيء، غامزاً بذلك من قناة المستشارين والمقرّبين من الرئيس، وعلى رأسهم الوزير السابق جبران باسيل، و"العونيّون" يقولون في المقابل، إنّ الإيجابية كانت "مزيَّفة" من الأساس، وأنّ الحريري لا يريد أصلاً تأليف الحكومة قبل تغيير الإدارة الأميركيّة، وكلّ ما يفعله مجرّد خطوات شكليّة للقول "أنا أحاول، لكنّ الآخرين هم من يمنعونني".
"تباعد" وأكثر!
لعلّ ما بدا "نافراً" في أحداث الأسبوع، ربما أكثر من خطاب "العيديّة" الذي بات مملاً لكثرة استهلاكه، هو كلام رئيس الحكومة المكلّف، حين "نسف" الإيجابيّة من أساسها، وتحدّث عن وجوب تأليف الحكومة بعد رأس السنة.
فُهِم من كلام الحريري أنّ الملفّ الحكوميّ برمّته سيكون "مجمَّداً" حتى ما بعد بداية السنة الجديدة، وربما كما يؤكد العارفون، إلى ما بعد منتصف الشهر الأول منها بالحدّ الأدنى، استناداً إلى "رهن" الحكومة بما لا علاقة لها به من الأساس، كالانتخابات الأميركية، والإجراءات الانتقالية ما بين إدارتي الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن.
بمعنى آخر، أوحى كلام الحريري بأنّ "إجازة العيد" بدأت، وأنّ السياسيين لن يكون لديهم وقت خلال أسبوع الأعياد، لعقد لقاءاتٍ، أو إجراء مباحثاتٍ، في محاولةٍ لإنتاج الحكومة، مع أنّ الأوْلى بهم كان عقد اجتماعاتٍ مفتوحة ومتواصلة لا تنتهي، قبل تصاعد "الدخان الأبيض"، إن توافرت الإرادة في كلّ الأحوال.
مثل هذا الاستنتاج ليس تفصيلاً ولا ينبغي أن يكون، فهو يؤشر ببساطة إلى عمق "التباعد" بين السياسيين والشعب، شعب يعجز عن الاحتفال بالعيد، وهو يردّد "بأيّ حالٍ عدت يا عيد"، وسياسيون يعيشون "في كوكبٍ آخر" بكلّ ما للكلمة من معنى...