ليس خافياً على أحد أنّ "العهد"، ممثَّلاً برئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه "التيار الوطنيّ الحرّ"، ليس راضياً عن المسار الحكوميّ المتعرِّج، ولا مرتاحاً لأداء رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، المتمسّك برأيه بمقولة "لا أؤلف ولا أعتذر"، حتى إثبات العكس.
وليس سرّاً، وفقاً للمنطق نفسه، أنّ عون لم يكن أصلاً محبِّذاً لتكليف الحريري من الأساس، وهو خاطب "وجدان" النواب عشيّة الاستشارات، لتفادي "سيناريو" تكليفٍ مفتوحٍ، كما هو حاصل، من دون أن يجد، بين الحلفاء قبل الخصوم، من يسمع نداءه، فيلبّيه كما تمنّى.
اليوم، يجد "العهد" نفسه في "دوامة" لا تنتهي، فالعلاقة مع الحريري ليست على ما يُرام، بل إنّ هناك من يتّهم الأخير بالسعي لإنهاء "العهد" عبر "محاصرته"، والنتيجة أنّ "المساكنة" بين الجانبيْن، ولو اتّخذت صفة "القسريّة"، لا تبدو ممكنة، في ظلّ الظروف الحاليّة.
ولأنّ "البكاء على الأطلال" لا ينفع، كما يقول العارفون، ثمّة في داخل "التيار الوطني الحر" من بدأ يتحدّث عن وجوب البحث عن "مَخارِج" لقلب الطاولة على الحريري، عن طريق وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما المرونة، وإما الاعتذار، بقوة الاجتهاد القانوني!.
"مخطط" الحريري!
أصبح "المخطط" واضحاً، في عيون "العونيّين"، الذين يشكون منذ ما قبل تكليف الحريري بأشهرٍ طويلةٍ من "مؤامرةٍ" على "العهد"، كانت حكومة حسّان دياب أكبر "الشهود" عليها يوم حوصِرت من داخلها قبل خارجها، ومُنِعت من الحكم، وتحديداً من تحقيق ما كان "العهد" يصبو إليه من محاربةٍ للفساد، عبر ضرب "رؤوسه"، معروفي الولاءات والانتماءات السياسيّة.
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ "أداء" رئيس الحكومة المكلَّف منذ التكليف حتى اليوم يصبّ في الخانة "التآمريّة" نفسها، باعتبار أنّ الرجل الذي صنّف نفسه "مرشّحاً طبيعيّاً ووحيداً" لرئاسة الحكومة، في ظلّ الظروف "الكارثية" التي يشهدها الوطن هذه الأيام، وضع "ورقة التكليف" في جيبه، ولم يبادر جدّياً سوى لخطواتٍ "شكليّة" لم يهدف من خلالها سوى لوضع رئيس الجمهورية، ورئيس "التيار" جبران باسيل من خلفه، في "قفص الاتهام"، وكأنّهما من يعرقلان ويعطّلان، ولو كان أقصى ما يطالبان به هو "توحيد المعايير".
ومع أنّ الاتهامات الموجَّهة لـ"العونيّين" تحمّلهم مسؤوليّاتٍ معنويّة وأخلاقيّة غير بسيطة، من الإصرار على "الثلث المعطّل"، إلى سياسة "مقايضة" الحقائب، مع تكريس "المحاصصة" في النهج المُتَّبَع، وصولاً إلى إفراغ "حكومة الاختصاصيّين" من مضمونها، كما أوحت أسماء المرشحين للتوزير، من أصحاب "الباع الطويل" في التنظير لـ"التيار"، ولو لم يحملوا بطاقاتٍ حزبيّة، فإنّ "العونيّين" يضعون كلّ هذه الأقاويل والإشاعات في إطار "الحملات المُغرضة" التي تستهدف "التيار"، والتي باتت واضحة للقاصي والداني.
برأيهم، يكفي للتدليل على موقفهم العودة إلى ما دار في اجتماعي بعبدا الأخيريْن بين عون والحريري، قبل "ترحيل" الأخير الملفّ الحكوميّ برمّته إلى السنة الجديدة، بعد 24 ساعة من ترويجه لإيجابيّة مزيَّفة، فإذا بالأسهمالناريّة تطال الرئيس ومستشاريه والمقرّبين منه، عبر تبنّي الحديث عن "وطاويط وغرف سوداء" وما شابه، دوناً عن الحريري، وكأنّ المطلوب من عون "رفع العشرة" والقبول بكلّ ما يفرضه رئيس الحكومة المكلّف، ولو تطلّب ذلك "التنازل" عن صلاحياته الدستورية، بوصفه شريكاً فعلياً في التأليف.
أفكار واجتهادات...
بمُعزَلٍ عن مدى "دقّة" الرواية "العونيّة" للمأزق الحكوميّ، خصوصاً أنّ "التيار" لم يقدّم "نموذجاً" في التأليف، يُبعِد عنه الاتهام بسلوك درب "المحاصصة"، ما يعني أنّ المسؤولية على "العونيّين" في تأخير التأليف تضاهي مسؤولية الأفرقاء الآخرين، وفق ما يرى مطّلعون على المأزق الحكوميّ المتفاقم، فإنّ "القناعة" باتت راسخة لدى "التيار" بأنّ لا حكومة ولا من يحزنون، في ظلّ هذه الذهنية، وأنّ الحريري لا يريد للحكومة أن تبصر النور، للعديد من الاعتبارات الداخلية والخارجية.
لكن، أبعد من "التسويق" لمثل هذه "النظرية" في مواجهة "الفرضيّات" الأخرى المنتشرة في الإعلام وفي السياسة، يبحث "العونيّون" عن "استراتيجية" مجدية لمواجهة هذا الأداء، خصوصاً أنّ الحريري يستطيع، باسم الدستور والتقيّد به، البقاء في موقعه حتى نهاية "العهد"، من دون أن يرفّ له جفن، الأمر الذي سيكون "العهد" المتضرّر الأكبر منه، هو الذي بات تكرار مسؤوليه لعبارة "منعونا من الإصلاح" مادة تندُّر وسخرية، والذي عجز منذ انطلاقته حتى اليوم عن تشكيل أيّ حكومة يصنّفها على أنّها "حكومة العهد"، بل تحوّل في بعض "حكومات العهد" إلى ما يشبه "المعارضة من الداخل"، إن جاز التعبير.
ويتحدّث بعض العارفين عن "اجتهادات دستورية" يبحث "العهد" فيها جدّياً، لعلّها تُفضي إلى "مَخرَجٍ" يفرض "اعتذار" الحريري، علماً أنّ مثل هذه الاجتهادات، التي يعتبرها البعض "غبّ الطلب"، متوافرة، وسبق أن طرح الوزير السابق سليم جريصاتي "مطالعاتٍ" في هذا الشأن، إلا أنّ الخشية تبقى من "العصبيّات الطائفيّة" التي يمكن أن تستدرجها، والتي قد تؤدي إلى "استنفارٍ" يشبه ذلك الذي نتج عن ادعاءات المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، والتي أدّت إلى "تعليق" التحقيقات برمّتها، دون اكتراثٍ بحساسيّة الملفّ.
وفيما يذكّر بعض "العونيّين" بـ"الحلّ" الذي قدّمه "التيار" من خلال مشروع قانون لـ"تقييد" رئيس الحكومة المكلّف بمهلةٍ محدَّدة لإنجاز مهمّته، مثلما يحصل في كلّ دول العالم، فإنّ هناك من يدرس "اجتهاداتٍ" أخرى، قد تأخذ الطابع السياسيّ، أو حتى الشعبيّ، للضغط على رئيس الحكومة المكلَّف، في ظلّ رفضٍ "عونيّ" مُطلَق لأيّ حكومة تؤدي إلى "استضعاف" العهد، لأنّ "الفراغ" في السلطة التنفيذية يبقى أفضل، وفق هذا الرأي، من حكومةٍ لا تتناغم مع "أجندته"، خصوصاً في ضوء ما بات متعارفاً عليه لجهة أنّها ستكون "آخر حكومات العهد"، بل ربما "تخلفه" في مرحلة "الفراغ الرئاسيّ" المرجَّحة.
لتصحيح "الاعوجاج"
حتى الآن، توحي الأجواء أنّ "كلّ الطرق" لا تؤدي إلى روما، ولكن إلى "الصدام" بين عون والحريري، فـ"المساكنة" بين الرجلين تفتقد مقوّماتها، طالما أنّ الأول لا يتقبّل حكومةً برئاسة الثاني، الذي يريد أن "يفرض" شروطه بكلّ الطرق المُتاحة.
صحيحٌ أنّ "تشخيص" المسألة يختلف بين شخصٍ وآخر، فكما أنّ "العونيّين" يتهمون الحريري بأنّه لا يريد سوى "محاصرتهم"، ثمّة من يتّهمهم في المقابل، بأنّهم من "يمنعون" الرجل من تشكيل الحكومة، بما ينسجم مع المبادرة الفرنسية، علماً أنّه قدّم تشكيلة كاملة متكاملة تلتزم بمقتضيات هذه المبادرة، لكنّها وُضعت في الرفّ.
ولكنّ الصحيح أيضاً، أنّه سواء كان عون أم الحريري على حقّ، فإنّ المأزق الدستوريّ والسياسيّ كبير، وأنّ صرف النظر عنه ليس الصواب، بل قد يكون المطلوب "استثماره" لتصويب البوصلة، وتصحيح "الاعوجاج"، بعيداً عن النصوص "المقدَّسة"، والخطوط الحمراء "المفتوحة"، والتي تكاد تشمل كلّ شيء في بلدٍ لم يعد قادراً على "الصمود" أكثر!.