عندما انهار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق في بداية تسعينيات القرن الماضي واختلّ التوازن العالمي وسارعت الولايات المتحدة الى استغلال ذلك لأجل فرض مشروع هيمنتها الأحادي القطب معتبرة انّ نموذجها الرأسمالي قد انتصر وانه هو النموذج الأصلح لكلّ الدول التي عليها اتباعه والرضوخ له، وخرجت سريعاً نظرية فرنسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، وانتصار النموذج الرأسمالي الليبرالي الأميركي، ونظرية هنتنغتون عن صراع الحضارات إلخ…
في حينه ساد الاعتقاد، وجرى العمل على الترويج له، بأنه ليس هناك من أحد قادر على تحدّي ومجابهة جبروت الإمبراطورية الأميركية، لا سيما بعد أن راحت تقرّر وحدها السياسات الدولية وتصدر القرارات التي تتلاءم مع مصالحها وتحوّل مجلس الأمن إلى حكومة عالمية تقودها أميركا وتتحكم بإصدار قراراتها، وكانت أولى هذه القرارات تغطية الحرب الأميركية على أفغانستان تحت عنوان محاربة الإرهاب، ومن ثم المصادقة على قيامها بغزو العراق بذريعة التخلص من خطر أسلحة الدمار الشامل التي تبيّن عدم وجودها، لكن كانت هذه الأهداف المعلنة، أما الأهداف غير المعلنة فقد تمثلت بما يلي:
أولاً، فرض السيطرة على العراق وأفغانستان وإعادة بناء نظامهما على أسس تضمن تبعيتهما سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً للولايات المتحدة وبالتالي تحوّلهما إلى قاعدة أميركية لتحقيق أهداف أميركا في الوطن العربي وعموم الشرق الأوسط من جهة، وبسط السيطرة على آسيا الوسطى من جهة ثانية.
ثانياً، إحكام السيطرة على موارد الطاقة في العراق وآسيا الوسطى التي تحتوي على ثاني أكبر احتياطات العالم من النفط والغاز بعد الخليج العربي.
ثالثاً، إعادة رسم خريطة الوطن العربي عبر تجديد أنظمة الحكم التابعة المستهلكة مثل مصر وتونس، والإطاحة بالأنظمة الوطنية المستقلة مثل سورية وإيران، وبالتالي السيطرة على طرق إمداد النفط والغاز لتغذية أوروبا بالغاز القطري بديلاً عن الغاز الروسي من ناحية، وجعل احتياجات الصين من النفط تحت رحمة الولايات المتحدة من ناحية أخرى..
وكانت واشنطن تسعى من خلال هذه الخطة، فيما لو نجحت، الى تحقيق ثلاثة أمور اساسية:
الأمر الأول، تطويق كلّ من الصين وروسيا وإضعاف قدراتهما ومنعهما من تحقيق أهدافهما في إسقاط الهيمنة الأحادية الأميركية على القرار الدولي. لمصلحة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب.
الأمر الثاني، تحقيق حلم المحافظين الجدد في إخضاع العالم لسيطرة الحكومة الأميركية، من خلال جعل مجلس الأمن حكومة عالمية تديرها الولايات المتحدة بما يحقق مصالحها في تكريس سيطرتها وهيمنتها على العالم..
الأمر الثالث، القضاء على حركات المقاومة في المنطقة، بعد النجاح في إسقاط سورية وإيران في شباك التبعية لأميركا، وتمكين كيان العدو الصهيوني من تصفية الحقوق الوطنية للشعب العربي في فلسطين، وإعلان الدولة الصهيونية العنصرية على كامل أرض فلسطين وعاصمتها القدس، وجعل هذه الدولة تتسيّد على المنطقة كلها لتصبح المركز والمحور الذي تدور في فلكه كلّ دول المنطقة..
لكن هذا المشروع الأميركي الاستعماري للسيطرة على العالم وفرض الهيمنة الأميركية الأحادية، لم ينجح، وأخفق، وباتت الإمبراطورية الأميركية تعاني من التراجع والانحسار، فيما كيان العدو الصهيوني دخل في أزمة وجوديّة ومأزق استراتيجي وتكتيكي في آن.. وهو ما جعل العالم يتنفس الصعداء ويصبح أكثر قرباً من التطلع إلى إعادة بناء النظام العالمي على أسس من التعددية الدولية والإقليمية واحترام المواثيق والقوانين الدولية..
والفضل في إحباط أهداف هذا المشروع الاستعماري الأميركي إنما يعود إلى العوامل التالية:
العامل الأول، المقاومة العراقية التي نجحت في استنزاف جيش الاحتلال الأميركي وتحويل بقائه في العراق إلى حجيم لا يحتمل البقاء فيه لا سيما بعد أن أدّى هذا النزف إلى تفجير أعنف أزمة مالية واقتصادية شهدتها الولايات المتحدة عام 2008.
العامل الثاني، المقاومة في لبنان التي تمكّنت بعد إلحاق الهزيمة الاستراتيجية والتاريخية بجيش الاحتلال الصهيوني أقوى جيش في الشرق الأوسط، خلال عدوانه على لبنان عام 2006، والذي استهدف سحق المقاومة والقضاء عليها لإعادة تعويم المشروع الأميركي المترنح في العراق.. ومحاصرة سورية العروبة والمقاومة والعمل على إسقاطها..
العامل الثالث، انتصارات الدولة الوطنية السورية، بدعم من حلفائها في محور المقاومة وروسيا، في مواجهة أشرس حرب إرهابية كونية شنّتها وقادتها الولايات المتحدة بوساطة الجماعات الإرهابية التي صنعتها، لمحاولة الانتقام لهزيمتها في العراق ولبنان، وعزل الجمهورية الإسلامية، تمهيداً للنيل من نظامها، لإعادة تعويم مشروع الهيمنة الأميركي الذي بدأ يعاني من التراجع بعد هزائمه في العراق ولبنان.. لقد شكل صمود سورية الأسطوري، قيادة وجيشاً وشعباً، في السنوات الأولى للحرب، الأساس الذي دفع روسيا إلى حسم قرارها في إرسال قواتها وسلاحها الجوي والمشاركة في دعم الجيش السوري وحلفائه في محور المقاومة في تسريع عمليات تحرير معظم الأراضي العربية السورية من جيوش الإرهاب.. وبالتالي خلق موازين قوى عسكرية في مواجهة القوة الأميركية، والتركية، واستعادة روسيا لدورها العالمي…
العامل الرابع، صمود إيران الثورة في مواجهة الحصار.. ونجاحها في تطوير قدراتها الذاتية العسكرية والاقتصادية والنووية السلمية والعلمية في المجالات كافة مما حصّن استقلالها وردع العدوانية الأميركية الصهيونية وجعلها تقف عاجزة عن شن الحرب ضدّ إيران.. وهو ما أجبر إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في العام 2015 على حسم خيار القبول بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران بعد مفاوضات مضنية بمشاركة مجموعة الخمسة زائد واحد.. وكان واضحاً ان واشنطن لم تسلم بتوقيع الاتفاق إلا بعد أن أدركت بأنّ حربها الإرهابية لإسقاط سورية قد فشلت في تحقيق ما تصبو إليه من إسقاط الدولة السورية ضهير المقاومة وحليفة إيران الثورة، وبالتالي فشلت في فكّ عرى التحالف السوري الإيراني وعزل إيران والمقاومة في لبنان وقطاع غزة…
وإذا كانت إدارة أوباما قد فشلت في تعويم المشروع الأميركي من خلال ركوب موجة الربيع العربي، وشنّ الحرب الإرهابية، بالوكالة ضدّ سورية، واضطرت مكرهة للتوقيع على الاتفاق النووي، فإنّ هذا الفشل الأميركي تكرّس في عهد إدارة دونالد ترامب الذي حاول يائساً إخراج أميركا من مأزقها.. على أنّ هذا الفشل إنما يتوّج إخفاق حروب أميركا في العراق وضدّ المقاومة في لبنان وقطاع غزة.. وأخيراً إخفاقه في اليمن الذي تحوّل إلى جنوب لبنان آخر.. الأمر الذي أدّى إلى تعثر وتراجع مشروع الهيمنة الأميركي في المنطقة والعالم، وإيجاد موازين قوى دولية وإقليمية جديدة أنعشت آمال روسيا والصين ومعهما العديد من دول العالم الرافضة للهيمنة الاستعمارية الأميركية، في الاقتراب من مرحلة ولادة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب على أنقاض النظام الأحادي القطب الذي سعت أميركا إلى تكريسه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي…
انطلاقاً مما تقدّم فإننا لا تبالغ إذا ما قلنا بأنّ انتصارات حلف المقاومة في العراق وسورية وغزة واليمن وإيران هي التي أحبطت حلم المحافظين الجدد في واشنطن لفرض مشروع الهيمنة والسيطرة الأميركية على العالم، وجعل القرن الـ 21 قرناً أميركياً.. فإذا به يشهد على بداية ولادة نظام عالمي جديد متعدد، دولياً وإقليمياً، يولد من رحم انتصارات حلف المقاومة.. الذي أصبح أكثر قوة وقدرة واتساعاً.. مما قضى أيضاً على أحلام القادة الصهاينة في تصفية قضية فلسطين وتسيّد الكيان الصهيوني على المنطقة.. وهو ما أعاد الى السطح الأزمة الوجودية لهذا الكيان الاحتلالي الاستيطاني العنصري المصطنع…