لم تمض بضعة أيام على كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن رغبته بتحسين علاقات بلاده مع إسرائيل، حتى جاء خبر إرسال انقرة لوفد تركي إلى دمشق يهدف ايضاً لتحسين العلاقات السورية-التركية. عمّ الخبر في الصحافة التركية التي قالت إن روسيا ترعى إعادة إحياء تلك العلاقات بين أنقره ودمشق، علماً أن أردوغان نفسه كان ألمح سابقاً إلى إستعداده بفتح صفحة جديدة مع السوريين. لكن ما سر الإندفاعة التركية بإتجاهين متناقضين: سوريا وإسرائيل؟.
يستبق أردوغان مرحلة تسلم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن زمام السلطة في الولايات المتحدة. لا يبدو أن الرئيس الأميركي الآتي سيعتمد على العقوبات التي استخدمها الرئيس الحالي دونالد ترامب بحق تركيا وغيرها في الإقليم، ولا يزال، لكن بايدن لا يستسيغ التصرف الأردوغاني الذي حارب حلفاء واصدقاء "الدولة الأميركية العميقة" في ساحات الإقليم، خصوصاً الكُرد. ومن هنا فإن أردوغان يتحضّر لمعرفة أي توجه أميركي جديد آت؟.
كان الرئيس التركي جرّب التمدد في سوريا أبعد من حدود إدلب وريفها، عبر دفع المجموعات المتطرفة التي يرعاها إلى التقدم بإتجاهات عدة، على حساب الكُرد والجيش السوري، لكن الرد الروسي بتأسيس غرفة عمليات مشتركة تجمع الكُرد والمؤسسة العسكرية السوريّة فرمل الإندفاعة الأردوغانيّة، فوجدت تركيا نفسها تواجه الأميركيين وحلفاءهم من جهة، والروس والايرانيين والسوريين وحلفاءهم من جهة ثانية. لذا، فإن أهم دافع لأردوغان من أجل "تحسين العلاقات" مع دمشق هو الإلتفاف الذي يُصنّف في خانة المناورة: هل يُعقل أن أردوغان أجرى تعديلات جوهرية على سياساته وبشأن مصالحه في سوريا؟! إن خطوته هي تكتيك لإجتياز المرحلة التي يواجهها داخلياً وخارجياً، في ظلّ ضغوطات إقتصاديّة وسيّاسية ضخمة تواجهها تركيا.
اما المناورة الثانية التي يجهد أردوغان لتحقيق نجاحاتها، فهي تجاه تل أبيب. هو عيّن سفيراً جديداً في إسرائيل، وغازل الإسرائيليين، رغم تضمين الخطاب نصوصاً إنشائيّة بشأن الفلسطينيين. لا يريد لتل أبيب أن تُصبح فقط حليفة عواصم عربيّة أجرت اتفاقيات تطبيع معها. لا بل يريد ان تبقى تركيا هي حجر الزاوية في الإقليم. لذا، يسعى أردوغان الى اعادة تعويم نفسه خارجياً عبر لم شمل تركي-إسرائيلي ترضى عنه بشكل اساسي المؤسسة الأميركية الحاكمة بعد ترامب.
لا يطبّق الرئيس التركي من خلال ذاك التكتيك معادلة "صفر مشاكل" التي كان أطلقها وزير خارجية تركيا السابق احمد داود اوغلو، لأن أردوغان نفسه سيواصل عداءه لدول عربية، خصوصا مصر والإمارات المتحدة، وهو يسعى بالمقابل إلى مهادنة إسرائيل من جهة، والروس والإيرانيين عبر سوريا من جهة ثانية، للتفرّغ لساحات أخرى في ليبيا وسيناء مصر والعراق.
لا يمكن أن يأمن العرب لمشروع أردوغان الذي يقوم على قاعدة "إخوانيّة" تسعى لفرض سياساتها ونفوذها في كل ساحات الإقليم، علما أن المعطيات توحي بأن المشروع المذكور فشل في تحقيق أهدافه انطلاقاً من سوريا على مساحة زمنيّة قاربت عشر سنوات من الحرب على دمشق.
لن تكون مناورة اردوغان وحيدة ولا أخيرة. سبق وأن أجرى مناورات شبيهة تجاه الفلسطينيين والعرب والإيرانيين والروس. ومن هنا لا تعتبر موسكو ولا طهران عملياً أنقره حليفة لكل منهما، بل تعتبرانها صديقة يتعاملان معها بالمفرق وبحسب الزمان والمكان والظروف. انها سياسات المصالح المتبادلة المؤقتة والمتغيّرة. المهم أن مشروع أردوغان لا يمكن ان يستمر في سوريا، ولا أن يعيش في أي دولة عربيّة: ولّى زمانه.