عام 2020 كان بمثابة نذير شؤم على العالم كله بسبب تَلاحق الويلات والكوارث، وفي طليعتها جائحة «كورونا» التي فرضت إغلاق كثير من العواصم في الوقت نفسه. وهكذا فرغت شوارع نيويورك وواشنطن ولندن وباريس ومجموعة من المدن الكبرى والصناعية والتجارية التي تشكّل ركائز الإقتصاد العالمي.
ما من شكّ أنّ العالم تغيّر في 2020، وأنّ العودة الى الحياة العادية بعد النجاح في إيجاد اللقاحات في حاجة الى فترة زمنية لا بأس بها، مع عدم إغفال أنّ تداعيات جائحة كورونا خلّفت آثاراً عميقة على النظام الذي كان يسود العالم، والتي من الصعب تجاوزها بعد اليوم.
وإذا كان العالم عاش سنة صعبة فرضت تقطيع أوصاله وألزَمت البشر على التباعد، إلا أنّ هذا العام المشؤوم كان أشدّ كارثية على لبنان الذي كان يعاني أصلاً انهيارات مالية واقتصادية ضاعَفت كورونا من خطورتها، وتوّجت مآسيها كارثة انفجار مرفأ بيروت، والتي صنّفت إحدى أكبر كوارث التدمير في تاريخ البشرية.
لقد جلبَ عام 2020 معه أحمالاً ثقيلة لا بل مُرهقة لبلد صغير نَخره الفساد وضرب الهريان بنيانه الضعيف، وتحكّمت به طبقة سياسية من الأسوأ على مستوى العالم، والتي عملت على التحايُل على شعبها الذي ثار ضدّها في الشارع. فبدلاً من أن تستقي،ل تشبّثت أكثر في مواقعها في السلطة واندفعت في الإتجاه المعاكس، والمقصود هنا إتهام الناس الغاضبين والناقمين، واستهدافهم وتَفتيتهم، ما استجلَبَ عبارات الاحتقار العلنية من المسؤولين الكبار على مستوى العالم.
وكلّما غرقت أجزاء أخرى من سفينة «التايتنيك» في مياه المحيط كلّما تصاعد أكثر مستوى النزاع بين أطراف هذه الطبقة السياسية، وعلا صراخهم لاستحواذهم على غرفة القيادة رغم أنّ المياه بدأت تتسرّب اليها أيضاً. الإمساك بالسلطة أيّاً كان الثمن وضمان توريثها.
والواقعية تقضي الإقرار بأنّ النزاع حول السلطة يُخفي وراءه نزاعاً إقليمياً ومشاريع كبرى مطروحة للوطن الصغير. لذلك مثلاً، تَتعقّد الولادة الحكومية ولا يبدو أنّها مُتاحة مع عبورنا الى السنة الجديدة.
ذلك أنّ البعض قرأ في انتفاضة «17 تشرين» تَبدّلاً في المعادلة التي كانت قد رَسَت منذ وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، والتي تعزّزت مع نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة. ومعه، فإنّ الإقرار بهذه التعديلات الجوهرية على المعادلة التي كانت قائمة سيعني خسائر على مستوى السلطة وتراجعاً لنفوذ «حزب الله».
لذلك مثلاً، أبلغَ النائب محمد رعد، بإسم «حزب الله»، الى الرئيس الفرنسي رفض إجراء انتخابات نيابية مبكرة.
ومعه، فإنّ إرساء حكومة خارج نطاق المحاصصة الحزبية سيعني الإقرار بالتبدّلات التي طرأت. لكن في المقابل هنالك انهيارات مالية من المستحيل الخروج منها من دون المساعدة الغربية، وهذه المساعدة تشترط الإصلاحات مُرفَقة بخريطة طريق. وهو ما يعني، وفق الترجمة السياسية، دَفع «حزب الله» بضع خطوات الى الوراء في السلطة التنفيذية، في انتظار موعد الانتخابات النيابية.
وفي المقابل، يلوّح «حزب الله» بعدم ولادة حكومةٍ لا تعكس التوازنات الحالية لمجلس النواب، حتى ولو ذهب لبنان الى الفوضى التي يستعدّ لها، مع تذكيره أنّ التجارب السابقة تثبت أنّ «حزب الله» يستطيع بسرعة التأقلم مع حال الفوضى والاستفادة منها، بعكس خصومه.
لكنّ لعبة «البوكر» الجاري تنفيذها في لبنان معقّدة أكثر بكثير ممّا تبدو عليه الصورة، ذلك أنّ إدارة جو بايدن تحضّر ملفاتها للتفاوض مع إيران، وكذلك إيران، ولو من دون الإفصاح عن ذلك.
ومعه، طرح السؤال الأهم: هل انّ مصالح فريق بايدن في تأمين مفاوضات ناجحة ستدفع واشنطن الى غضّ الطرف عن ضغوط إيران الإقليمية؟
الجواب جاء على لسان المفاوض الأميركي السابق والخبير في شؤون المنطقة السفير دينيس روس، والقريب جداً من الديموقراطيين.
ففي «بلومبرغ» كتب روس قائلاً انّه «على رغم من التحدّي الكلامي بعِلم خامنئي فإنّ الإيرانيين في حاجة الى الارتياح من وطأة العقوبات، وسيبحثون عن سُبل لتخفيف ذلك، ولكن لا يجب أن يخففوا ذلك مجّاناً».
الواضح أنّ نصيحة روس مُستوحاة من روحية تفكير بايدن. في الواقع إنّ لبنان يرزح منذ الآن، وحتى إشعار آخر، تحت وزر تحسين مواقع التفاوض.
وبخلاف كلّ الآراء، فإنّ واشنطن مهتمة بالتفاهم لاحقاً مع «حزب الله»، ولَو بطريقة غير مباشرة، ولكن بعد إعادة ترتيب سلطة لبنانية جديدة وبنفوذ محدود لـ«حزب الله».
وعلى سبيل المثال، كان لافتاً تسريع أعمال بناء السفارة الأميركية في عوكر بعد فترة تَباطؤ فرضتها ظروف انتشار كورونا. وفي شباط المقبل، من المفترض وصول طاقم ديبلوماسي أميركي جديد الى لبنان، مع الإشارة الى أنّ البناء الجديد الهائل للسفارة يستوجِب توسيع وتنويع أقسام خدماتها. وبمعنى آخر، إنّ واشنطن تريد استعادة دور الزمن الغابر للسفارة الأميركية قبل العام 1984. أي سفارة مهمتها استشعار الحركة السياسية الإقليمية من خلال المرآة اللّبنانية، أي «سوبر سفارة». وهذا يعني أنّ واشنطن معنّية بالمسار المستقبلي للبنان وإعادة ترتيب أحجاره.
واستطراداً، فإنّ النزاع حول الحكومة له سقف سياسي محدد سيُعمل على تثبيته إمّا بالإقتصاد أو بالسياسة، وهو ما يعني أيضاً أنّ الإتجاه الموجود لدى بعض القوى لتطيير الانتخابات النيابية والتمديد للمجلس الحالي بتوازناته المعروفة لن يحصل. وقد تجري مواكبة ذلك بحملة دولية واسعة.
فكيف يمكن تبرير هذا التأجيل بتداعيات كورونا كما هو حاصل الآن مع عدم الدعوة الى الإنتخابات الفرعية، فيما تتجّه إسرائيل الى رابع انتخابات عامة على رغم انتشار كورونا، وذهاب أكثر من 50 مليون ناخب أميركي الى صناديق الإقتراع؟
والمشكلة الأهم بالنسبة الى اللبنانيين هي الانهيار الإقتصادي والمالي الكبيرين، والمرشّحين للتفاقم بسرعة خلال الأسابيع المقبلة وسط انسداد أفق الاصلاحات المطلوبة.
وحتى على صعيد استكشاف الغاز في البحر، فإنّ الأمور لا تبدو قريبة، ذلك أنّ الكونسورتيوم الذي تترأسه شركة «توتال» سيؤجّل التنقيب عن النفط في البلوك الرقم 9 الى ما بعد سنتين على أقرب تقدير.
أمّا البلوك رقم 4، فإنّ هذا الكونسورتيوم أبلغَ الى المسؤولين اللبنانيين عدم اهتمامه بالتنقيب في هذه المنطقة، وذلك بعد التجربة الفاشلة التي خاضها منذ بضعة أشهر.
في اختصار، إنّ الكباش فوق الرقعة اللبنانية مرشح للاشتداد، خصوصاً أنّ قواعد اللعبة دخلت عليها عناصر جديدة، أهمها على الإطلاق ترتيب الساحة اللبنانية بما يَتناسَب مع ترتيب خريطة نفوذ جديدة تطمح واشنطن الى رسمها من خلال المفاوضات التي طال انتظارها بينها وبين طهران.
أشهر صعبة متوقعة من دون أدنى شك.