أخيراً، رحل العام 2020، "غير مأسوفٍ على شبابه"، كما يُقال، بعدما امتلأت رزنامته بالكوارث والانهيارات على مستوى العالم، وبشكلٍ أوسع على مستوى لبنان، وهو الذي صُنّف من قبل الوكالات الدولية قبل المحلية بـ"الأسوأ" على الإطلاق منذ أيام الحرب، وما خلّفته من مآسٍ وخراب، لا تزال تبعاتها مستمرّة حتى يومنا هذا.
وفي وداع العام، امتلأت الشاشات المحلية ومنصّات التواصل، على جري العادة، بظاهرة "توقعات العام الجديد"، فأطلّ المنجّمون والبصّارون ليُغدِقوا على المستمعين والمشاهدين بمئات التنبؤات حول ما ستحمله السنة العتيدة، تقاطعت بمجملها عند طغيان "السلبيّة" على كلّ ما عداها، من دون اعتبارٍ لنفسيّة اللبنانيّين السيّئة أصلاً.
لكن، وبعيداً عن التنبؤات المبنيّة على "إلهاماتٍ" باتت مُضحِكة مُبكية، مثلها مثل التقارير التلفزيونيّة التي "تتباهى" بما تحقّق من توقعات العام الماضي، ومعظمها "إسقاطات" لا علاقة لها بتنبؤات بعضها أقرب إلى "أبيات شعرية"، قد يكون من المفيد محاولة قراءة "طلائع" العام الجديد، استناداً إلى المُعطيات السياسية والواقعية.
فأيّ تحدّياتٍ تنتظر اللبنانيّين عمليّاً في العام الجديد؟ وهل يحقّق "الفرَج" الذي يأمله جميع اللبنانيين، الذين فصّلوا معايدات هذا العام على قياس أن "لا تُعاد الـ2020"، أم يكون استكمالاً لمسلسل الانهيارات الذي يقول البعض إنّ الآتي على خطّه قد يكون أعظم؟!.
الحكومة أوّلاً
لعلّ الاستحقاق الأول الذي ينبغي التركيز عليه في مستهلّ العام الجديد هو ملفّ الحكومة المُرحَّل من العام المنصرم، خصوصاً أنّ اللبنانيين سيحيون خلال أيام، ذكرى مرور خمسة أشهر على استقالة الحكومة بسبب العجز، من دون أن تؤلَّف طيلة هذه الفترة أيّ حكومةٍ أصيلةٍ بديلة قادرة على التصدّي للمهام "المستحيلة" المُلقاة على عاتقها.
وإذا كان رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري وعد، قبل أخذ إجازته غير المستحَقّة قبيل عيد الميلاد، باستكمال البحث بالملفّ الحكوميّ بعد رأس السنة، فإنّ كلّ النقاشات الدائرة في الكواليس السياسية لا توحي بأيّ "دخانٍ أبيض" يمكن أن يتصاعد في المدى المنظور، على رغم كلّ الوساطات والمبادرات التي يتوقع أن تُفعَّل من جديد بدءاً من الأسبوع المقبل، وعلى رأسها مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي الأخيرة.
ولعلّ الطامة الكبرى تكمن في ما يُحكى في الكواليس السياسية، حيث لا يتردّد البعض في "التبشير" بأنّ أيّ حكومةٍ لن تتشكّل قبل انتهاء العهد، طالما أنّ القيّمين على الملفّ لا يزالون "أسرى" معادلاتٍ لا إمكانية للخروج منها، فالحريري يقول بالفم الملآن إنّه "لن يعتذر" مهما كان الثمن، فيما يتّهمه "العهد" بأنّه لا يريد أن يشكّل من الأساس، وهناك من يقول إنّ "العهد" يفضّل "الفراغ" على أن تكون آخر حكوماته برئاسة الحريري، ووفق "أجندته".
وبين هذا وذاك، يبقى "التعويل" التاريخيّ، ولو كان غير المنطقيّ، على الخارج لتحريك المياه الراكدة، فهناك من لا يزال يصرّ على أن الحكومة تنتظر إنجاز الإجراءات الانتقاليّة في البيت الأبيض، بين إدارتي الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن، وهناك من يعتقد أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أرجأت إصابته بكورونا زيارته "الموعودة" إلى لبنان، إن لم تكن قد ألغتها، وحده من سيستطيع "فرض" الحكومة في نهاية المطاف، ولو بعد عمرٍ طويل.
الانهيارات مستمرّة
تكمن أهمية بتّ الحكومة، رغم اعتقاد معظم اللبنانيّين بأنّها "تفصيل" في المشهد، وهي عمليّاً "لا تقدّم ولا تؤخّر"، في الإجراءات التي ينبغي على أيّ حكومةٍ تُشكَّل، أن تتّخذها للمضيّ بورشة الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدوليّ، على طريق مكافحة الفساد، لعلّها تنجح في إخراج لبنان من "النفق المظلم" الذي يتخبّط به منذ سنوات، بعدما بات أقرب ما يكون من "جهنّم" التي سبق أن حذر الرئيس ميشال عون من الوصول إليها.
إلا أنّ الخبراء، لا المنجّمين، يتوقّعون أن يستمرّ "مسلسل الانهيارات" فصولاً، بحكومةٍ ومن دون حكومة، أولاً لأنّ الحكومة بالطريقة التي يتمّ تشكيلها فيها، وعلى أساس نظام "المحاصصة" نفسه، لن تكون قادرة على إنجاز شيءٍ يُذكَر، بعيداً عن العناوين والشعارات، ولعلّ ما حصل على خطّ التدقيق الجنائيّ على سبيل المثال، والألغام "غير البريئة" التي وُضِعت في طريقه خير دليل، فضلاً عن كون معظم "رموز" الحكومة العتيدة يرفضون المسّ بأيّ من رجالات "الانهيار"، بوصفهم "خطوطاً حمراء".
ويذهب بعض الخبراء أبعد من ذلك، بالقول إنّ الحكومة المُنتظَرة، إن وُلِدت، قد تزيد الطين بلّة، إذ ستكون مهمّتها الأساسيّة "إدارة الانهيار" لا "تفادي" حصوله من الأساس، وقد لا تتوانى عن اتخاذ قراراتٍ "غير شعبيّة" تحت شعار "الإنقاذ"، تعزّز من معاناة اللبنانيّين الذين لم يعد لهم حوْل ولا قوة للصمود، في ظلّ التضخّم الحاصل، ونسب البطالة المرتفعة، والأجور التي فقدت قيمتها، ولم تعد تكفي بمعظمها لتأمين مأوى، من دون الحديث عن المأكولات والملابس.
ولأنّ الأزمة ماليّة اقتصاديّة بالدرجة الأولى، فإنّ أحداً لا يتوقع أن تحمل الحكومة "عصا سحرية" لإنهائها، خصوصاً أنّ كلّ المؤشّرات توحي بأنّ هذه الأزمة ستتفاقم، ولا سيما على مستوى الودائع المحتجزة في المصارف، التي "بشّرت" زبائنها بأنّ "الحدّ الأدنى" الذي كان مسموحاً لهم استخدامه في المعاملات الدولية، سيتمّ "تصفيره" مع اليوم الأول من العام الجديد، علماً أنّ بعضها اتّخذ هذا الإجراء "الصارم" منذ أشهرٍ طويلة.
"التغيير المنشود"
ليس المقصود من كلّ ما سبق تعميم "السلبيّة" التي روّج لها "أصحاب الإلهام" ممّن فُتِحت لهم المنابر ليلة رأس السنة، لترهيب اللبنانيين وإخافتهم، ولكنّها قراءةٌ "واقعيّة" للاستحقاقات المُنتظَرة في العام الجديد، والتحدّيات الكثيرة المُلقاة على عاتقه.
هي ربما محاولة للتخفيف من "الرهانات" على أنّ العام الجديد سيقضي بصورة "تلقائية" على كلّ "إرث" العام الراحل، التي تشبه في مكانٍ ما ذلك "التعويل" على أنّ الحكومة ستولَد "أوتوماتيكياً" بمجرّد أن تطأ قدما جو بايدن البيت الأبيض، ويخرج دونالد ترامب منه.
إلا أنّ كلّ ما سبق، وإن كان مبنياً على التحليل والتشخيص، لا الإلهام والتبصير، ليس مُنزَلاً، إذ يبقى "تغييره" أكثر من مُتاح، إلا أنّه يتطلّب إرادة جدّية، من رأس الهرم إلى أسفله، بـ"التمرّد" على واقع الحال، والانطلاق بعزم في "معركة" الإصلاح والتغيير.
قبل سنتين مثلاً، لم يكن أحد يتوقّع أن ينجح "حراك" في لبنان بالحشد والتعبئة، إلا أنّه بلور نواة "ثورة"، لم تكتمل ربما، لكنّها على الأقلّ، أسّست لتجربةٍ جديدةٍ قد يكون "تطويرها" المعبر الإلزاميّ للتغيير المنشود...