ظاهرة إستمرار تصديق شرائح واسعة من المُجتمع اللبناني لكذب وخداع مُدّعي كشف الغيب ورؤية المُستقبل غريبة جدًا في عصرنا الحالي، أي في الزمن الذي صار فيه العلم مُتاحًا للجميع، وباتت الثقافة على بُعد نقرة واحدة على الكومبيوتر أو على الهاتف الذكي!.
بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ وسائل الإعلام اللبنانيّة لن تتوقّف عن إستضافة مُدّعي التنجيم وقراءة الغيب ومَعرفة المُستقبل، وهي لن تتردّد في تلميع صُورتهم، وفي غسل أدمغة المُشاهدين، من خلال تحقيقات مُصوّرة تتجاهل وتُخفي مئات الثغرات التي تفضح كذب "مُدّعي النُبوءة"، علمًا أنّ هذه التحقيقات تُحوّر كلام هؤلاء وترفقها بمونتاجات مُضلّلة للزعم بأنهم يملكون "رؤى" عن المُستقبل. والسبب أنّ وسائل الإعلام تُعاني من خلل حادّ في ميزانيّاتها الماليّة، وهي تحتاج لمُطلق أي مصدر للدخل، وعن أيّ وسيلة لجذب المُشاهدين وبالتالي لكسب الإعلانات-حتى لوّ كان عبر تضليل مُتابعيها وخداعهم! ولا بُدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ مُدّعي التنجيم وقراءة الغيب ومَعرفة المُستقبل لن يتوقّفوا بدورهم عن الكذب، وعن بذل الجُهود المُضنية لمُحاولة خداع الناس، لأنّ "مهنة" التدجيل هذه، حوّلتهم من أشخاص عاديّين ينتمون إلى عائلات بسيطة وفقيرة، إلى مَشاهير يَملكون أموالاً وثروات طائلة! وبالتالي، الكُرة لوقف هذه الظاهرة، هي بيد المُشاهد اللبناني دون سواه، فإمّا يرتقي بعلمه وبثقافته إلى مُستوى يليق بالعقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وإمّا يبقى أسيرَ ذهنيّة جهل الإنسان البدائي وغباء الذين يُصدّقون "قارئي الفناجين" الجُدد! والكلام في هذا المَقال مُوجّه إلى المُشاهد اللبناني:
كيف تُصدّق مُدعية تنجيم تتسم بالبساطة والخفّة وحتى بالسذاجة، حيث أنّها محلّ سُخرية وتهكّم من مُطلق أيّ إنسان مُتعلّم ومُثقّف بمُجرّد أن تُبدي رأيها في أي موضوع؟! كيف تُصدّق هذه "المُنجّمة" الكاذبة-حتى ولوّ لم تتحقّق مئات "الرؤى" المَزعومة التي قالتها على مدى سنوات وسنوات؟! كيف تُصدّق "قارئة فنجان" العصر الرقمي وهي تتحدّث عن "رؤى"، ما هي في الواقع سوى مَعلومات صحافيّة مَنشورة في العديد من المَقالات التحليليّة، لكن يبدو أنّ من كتبها لها مُبتدئ في الصحافة بحيث جعل صياغتها غير مُقنعة؟! كيف تُصدّق "مُنجّمة" كاذبة، داهمها الوقت المَمنوح لها ليلة رأس السنة، فراحت تبحث عبثًا بين أوراقها المُبعثرة عن "رؤية" مَزعومة بالغة الأهمّية، لكنّها نَسَتْها؟!.
كيف تُصدّق أيّها المُشاهد اللبناني مُدّعي تنجيم يتّسم بالخثبث والمكر، كان يُطلق في الماضي بضع عشرات من "الرؤى" المَزعومة، لكنّه غيّر أسلوبه بعد الفشل الذريع الذي أصابه وأفقده مصداقيته بين مُتابعيه، فإعتمد أسلوبًا مُختلفًا يقضي بإطلاق مئات التوقّعات دفعة واحدة، وبعدم تحديد مهلة سنة لتحقيقها، ليضيع المُشاهد بين كثرة هذه "النبوءات" وتشعّبها وعدم إرتباطها بسقف زمني لتتحقّق؟! كيف تُصدّق هذا المُخادع الذي يتحدّث عن لون ونقيضه وعن حالة ونقيضها وعن صفة وعكسها، بحيث مهما حصل في المُستقبل يُمكن لمُعدّي، لبلّ لمُزوّري التحقيقات المُصوّرة تركيب الأفلام المُناسبة لإظهاره وكأنّه أصاب بنبوءاته المَزعومة؟! كيف تُصدّق هذا الدجّال الذي يسرق تحليلات صحافيّة، وتوقّعات إعلاميّة مَنشورة، فيعيد صياغتها بعبارات تحمل عشرات التأويلات والتفسيرات، ويُقدّمها للجُمهور وكأنها "نُبوءات"؟! كيف تُصدّق أيّها المُشاهد اللبناني مُدعي تنجيم يكتب "الرؤى" المَزعومة بخط اليد في زمن الطباعة والكومبيوتر، ولا يُكلّف نفسه إعادة كتابتها بصيغتها النهائيّة على ورقة جديدة نظيفة، فيعمد إلى إستخدام قلم الحبر لشطب العبارات التي غيّر رأيه بالنسبة إلى قراءتها في اللحظة الأخيرة، في تصرّف مُشابه لتصرّف أي تلميذ كَسول في الصفّوف المُتوسّطة؟!.
كيف تُصدّق أيّها المُشاهد اللبناني مُدّعية تنجيم فقدت بريقها السابق في عالم الصحافة والإعلام مع مُرور الزمن، فامتهنت مهنة جديدة تؤمّن لها مَعيشتها، عن طريق الزعم بتأثير الأبراج على حياة الإنسان وتصرّفاته، وعن طريق الترويج لعلم مَزعوم لا يُعلّم في أيّ جامعة مُحترمة في العالم أجمع؟! كيف تُصدّق أيّها القارئ كتب أبراج تصدر سنويًا وتزعم معرفة ما سيحصل مُستقبلاً لمواليد كلّ شهر، علمًا أنّ من يُتابع هذه الكُتب يكتشف العبارات المَطاطة التي يتمّ حشوها وتكرارها بشكل مُملّ، والتي تحمل الشيء ونقيضه في الوقت عينه، والأهمّ التي يتمّ نقلها من برج إلى آخر مع كل إصدار جديد، في تضليل مَفضوح للناس؟!.
في الخُلاصة، إنّ من يرغب في الإستمرار بالغرق بجهله وغبائه، هو حرّ في ذلك بطبيعة الحال، لكن فليُبقي جهله وغباءَه لنفسه، ولا يتحف الأشخاص المُتعلّمين والمُثقّفين بإرسال سفاهات هؤلاء الكذّابين والدجّالين. ويُمكنه أيضًا–إن أراد، أن يطرق على المَعادن مُحدثًا ضجيجًا وجلبة، كما كان يفعل إنسان القُرون الوسطى عندما يُشاهد كسوف الشمس أو خُسوف القمر، علّه لا يعود يخشى المُستقبل ولا ينتظر الدجّالين والكذّابين والمُخادعين لطمَأنته إلى ما ستحمله له الأيّام!.