كعادته كل عام، يتحملق عدد كبير من اللبنانيين امام شاشات التلفزة لسماع "آخر ابداعات" المنجمين ومن "يقرأ الغيب" ويدّعي معرفة ما لا يمكن معرفته الا بقدرات خاصة... وكعادة هذا البعض، لا يكتفي بمتابعة ما يقوله هؤلاء بل يستيقظ في الصباح الباكر ويمضي النهار التالي لعيد رأس السنة، في قراءة ما سمعه او ما لم يسمعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الالكترونية، ليؤكد بما لا يقبل الشك ان قسماً من اللبنانيين بات لا يمكن توعيته ولا يتقبّل المنطق والرصانة.
من الذي توقع قبل عام او اكثر اننا سنعاني ما عانيناه، ان على مستوى العالم او على مستوى لبنان؟ وبغض النظر عن قسم من الناس هدفه اظهار ان المنجمين صدقوا (ولو بالقوة عبر محاولة اسقاط كلامهم البعيد عن الحقيقة، على احداث حصلت للامعان في ضرب عقول الناس)، فإن هؤلاء الاشخاص الذين يزدادون عدداً سنة تلو الاخرى، يعلمون في الغيب بقدر ما يعلم الانسان حكمة الله. وغالباً ما اتوقف كغيري من الناس، عند افكار تراودني بعد ان تكون اخبار المنجمين قد غزت التلفزيونات والهواتف والكمبيوترات وغيرها من وسائل التواصل والاتصال، حول ما كان سيتغيّر لو فعلاً صدق المنجمون. لعل اول ما يتغيّر في هذه الحالة، مقدار الناس الذين سيصدقونهم ويتابعونهم عن اقتناع وجدية، خصوصاً وان صورتهم ستكون قد برزت دون ان تتعرض للاهتزاز والتحطيم بفضل "التنبؤ" بأحداث ومواضيع لا يمكن تكذيبها او تغليفها بغير ما هي عليه، فتفضح اضاليلهم.
من المتغيّرات ايضاً لو صدق المنجمون، انهم كانوا جنوا ثروات طائلة عبر تهافت الناس عليهم لاستشارتهم وتلقي النصائح منهم، بدل ان تكون ثرواتهم (كما هي عليه اليوم) بفضل الاعلان والتشويق وايهام الناس بأن كل ما يقولونه هو... الحقيقة.
ولو صدق المنجمون، لكانوا بعيدين عن اي اذى او مصيبة او كارثة تحل بهم، لكانوا علموا او شعروا او استشفوا بالخطر المحدق بهم وبأحبائهم قبل حصوله، واذا سلّمنا جدلاً ان "تنبؤاتهم" لا تصح لهم وهي تنجح فقط لغيرهم، لكانوا على الاقل علموا بالكارثة التي تضرب المجتمعات، وخصوصاً منها الطبيعية التي تصيب شريحة كبيرة من الناس وليس فئة واحدة.
لو صدق المنجمون، لكان وباء كورونا قد مرّ بشكل طبيعي، لان تحذيراتهم كانت لتدفع القيّمين والمسؤولين الى التحرك بسرعة اكبر واتخاذ الاجراءات اللازمة بوعي وادراك لما يحصل، ولكان تم انقاذ مئات الآلاف من الارواح، ولما تغيّرت عاداتنا وتقاليدنا.
لو صدق المنجمون، ولو كانوا فعلاً دعاة خير وسلام، لعملوا على تفادي الحروب على انواعها عبر ازالة اسبابها المباشرة، ولكانوا حرصوا على كشف العديد من المعطيات الخفية التي لا يزال العالم يدور في حلقة مفرغة فيها.
لو صدق المنجمون، لكانوا تولوا (بالحاح من الشعب) مقاليد السلطة، ولكانوا ساعدوا المواطنين على البقاء بأمان والعيش بكرامة، من خلال قراراتهم المبنية على "رؤيتهم المستقبلية للاحداث" والتي لا يشاركهم فيها احد، مع الابقاء بطبيعة الحال على حرية الانسان الذي ينحى دائماً الى ان يختار ما يعود عليه بالفائدة اذا كان يعلم ما ينتظره، اما القلة الباقية التي لا تريد الاستماع الى النصائح فتتحمل مسؤولية قراراتها.
لو صدق المنجمون، لتهافتت عليهم الدول العربية والغربية، ولكانوا اليوم صنّاع القرار في العالم، وتنافست شعوب العالم على استمالتهم.
ولكن، كل هذه الامور لن تحصل لسبب معروف وواضح، والاكثر ايلاماً هو ان البعض لن يرتدع عن تنظيم حياته وفقاً لاقوال "المنجمين" مع كل ما يعنيه ذلك من "مصائب" اضافية قد يغرق فيها، وسيبقى هذا البعض يدور في حلقة كونية فارغة وضعه فيها "المنجمون" الذين يستفيدون من رؤية من يصدقهم ضائعاً في اضاليلهم، متنقلاً من محطة الى اخرى دون ان يصل الى هدفه يوماً.
وكل عام وانتم بخير.