ليس في أجندة الرئيس سعد الحريري مشروع حكومة في المدى المنظور. فليس في الأفق ما يوحي بتذليل العوائق أمام التأليف. لذلك، هو يتعاطى مع المرحلة باعتبارها وقتاً ضائعاً. وليس سرّاً أنّ بعض القريبين يشجعونه على الاعتذار لئلا يتحمَّل المسؤولية عن التعطيل وتفاقم الأزمات، لكن أصدقاءه في باريس يطلبون منه «الصمود».
كل الكلام على خلافات حول الحصص والحقائب والأسماء بين الحريري وفريق رئيس الجمهورية ميشال عون هدفه فقط إخفاء العقدة الحقيقية، وهي: هل سيشارك «حزب الله» في الحكومة أم لا، وبأي شكلٍ ومستوى؟
عندما استقال الرئيس حسّان دياب، بعد انفجار 4 آب، ظنّ الفرنسيون أنّها ستكون فرصتهم لتزكية شخصية من خارج الصف السياسي التقليدي، فوقع الاختيار على الدكتور مصطفى أديب. واعتقدوا أنّ الظروف الطارئة والدينامية التي خلّفتها زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لبيروت، ولقاءه القادة السياسيين في «قصر الصنوبر» ستتكفل بنجاحه.
ولكن، كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب في المرصاد. وسارع وزير خارجيته مايك بومبيو إلى تحديد «ضوابط» للتأليف: «صحيح أننا نعمل مع الفرنسيين، وتجمعنا الأهداف، لكن الأمور لن تعود كما كانت في السابق. إنّ «حزب الله» لن يشارك في الحكومة». وللتأكيد، أعقبت ذلك دفعةُ عقوبات شملت الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.
كان معروفاً أنّ الشروط الأميركية ستطيح أي محاولة لتأليف حكومة سياسيين ملتبسة، على طريقة حكومة دياب. فصحيح أنّ أحداً في الداخل أو الخارج لا يستطيع تحدّي «الفيتو» الأميركي، المدعوم خليجياً. ولكن، في المقابل، لا يستطيع أحدٌ فرض حكومة تتحدّى «حزب الله»، في ظلّ الواقع القائم في البلد.
تشبَّثَ أديب بحكومة مستقلين «مثالية». ولكي يستطيع إقامة توازنٍ يخوِّله مفاوضة الكتل الطائفية القوية، تلقّى دعم الحريري من خلف الطاولة. لكن هذا الدعم لم ينفع. وعلى العكس، استند إليه الخصوم للقول إنّ مصطفى أديب نفسه ليس مستقلاً، بل هو ورقة مستورة يلعبها الحريري.
كانت تتفاعل داخل فريق الرئاسة الفرنسية وجهتا نظر تجاه عملية التكليف:
- الأولى يقودها كبير مستشاري ماكرون، والسفير السابق في لبنان، إيمانويل بون، وتقول بالإصرار على تكليف شخصية مستقلّة من خارج الطاقم السياسي، ما ينسجم مع روحية الدعم الذي قدّمته باريس لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019. ففي تقدير أصحاب هذا الرأي، أن لا مبرِّرات منطقية للاستعانة بالحريري مجدداً، وهو الذي استقالت حكومته تحت ضغط الانتفاضة.
- الثانية يقودها مدير جهاز الاستخبارات الخارجية، السفير السابق أيضاً في لبنان، برنار إيمييه، وتميل إلى الاستعانة بالحريري مباشرة، من منطلق التعاطي بواقعية مع التوازنات السياسية في لبنان. ويقول أصحاب هذا الرأي بتشكيل حكومةٍ يغلب عليها التكنوقراط والمستقلّون، ولكن ترضى عنها القوى السياسية الداخلية والخارجية، بما فيها «حزب الله».
ومعروف أنّ إيمييه، الخبير جداً في الشأن اللبناني، كان على علاقة طيّبة بالرئيس رفيق الحريري، منذ أن كان مستشاراً لصديقه الرئيس جاك شيراك خلال ولايته، ثم بعد تعيينه سفيراً في بيروت في العام 2004. أي إنّه عاش مرحلة اغتيال الحريري وخروج القوات السورية في 2005 والتطورات التي أعقبتها حتى 2007.
وجد ماكرون نفسه مضطراً إلى اعتماد الخيار الثاني، لأنّه البديل الوحيد للإعلان عن فشل المبادرة. وانخرط أكثر في الملف اللبناني، بزيارة ثانية ووعود بالدعم الإنساني، على الأقل. وهو يعتقد أنّ سقوط الدولة اللبنانية، في شكلها الحاضر، سيقود إلى خسارة باريس موقعاً لن تستعيض عنه في الشرق الأوسط، حيث يتزاحم المتنازعون الإقليميون والدوليون.
ولكن، منذ اللحظة الأولى، ظهر أنّ حظوظ الحريري في التأليف لن تكون أفضل من حظوظ أديب. فقد «عاجله» بومبيو بتأكيد «ضوابطه»، وعمد مساعده ديفيد شينكر إلى مقاطعة القوى السياسية، ولوَّح بمزيد من العقوبات على «الحزب» وحلفائه و»كل المتورطين في الفساد». وفي مطلع تشرين الثاني، كانت رسالة واشنطن ذات مغزى استثنائي عندما استهدفت بالعقوبات أقرب الأقربين إلى عون، الوزير جبران باسيل.
يقول المطلعون، إنّ فرنسا راهنت على رحيل إدارة ترامب ومجيء جو بايدن، كما راهن الإيرانيون، ولكن من زاوية مختلفة ولغايات أخرى. وقد نجحت حتى الآن. وتصوَّر ماكرون أنّه سيستطيع إيجاد مكان لمبادرته اللبنانية، إذا انكسرت حدّة المواجهة بين واشنطن وطهران.
وفي اعتقاد ماكرون، أنّ ذلك المناخ سيتيح تشكيل حكومة يشارك فيها «حزب الله» في شكل أو بآخر، ضمن اتفاق دولي- إقليمي تحظى فرنسا بدور أساسي في رعايته، كما جرت العادة دائماً قبل الطائف وبعده.
وطبيعي أن يفضِّل ماكرون وجود آل الحريري في رئاسة الحكومة، نظراً إلى رصيدهم في الطائفة السنّية وسائر الطوائف، وخصوصية العلاقة بينهم وبين باريس، على مدى العقود الـ4 الأخيرة. ولذلك، يحرص ماكرون على إبقاء الحريري في وضعية المكلَّف وعدم الانسحاب، على رغم النصائح التي يتلقاها من الأقربين بالاعتذار ورمي كرة النار بعيداً.
مشكلة الحريري والفرنسيين هي الآتية: ليس هناك أفق لانطلاق مفاوضات بين بايدن والإيرانيين. وليس هناك أفق للمدّة التي تستغرقها المفاوضات، إذا انطلقت. وليس هناك أفق للضغوط والعقوبات الأميركية المتصاعدة والسريعة على لبنان، وليس هناك أفق لتجنّب الانهيارات المتكاملة المتوقعة قريباً. وفي الخلاصة، ليس هناك أفق لانتظار تشكيل الحكومة… وللانهيار الآتي مع الانتظار!
إذاً، سيحاول الحريري كسب الوقت ما دام الخصوم معه قبل الحلفاء، بمن فيهم «حزب الله»، والفرنسيون يدفعونه إلى «الصمود»، والأميركيون ليسوا ضدّه. ولكن، إلى متى؟