ليس من المبالغة القول إنّ العالم صُعق من مشاهدة انصار الرئيس الاميركي دونالد ترامب يقتحمون مبنى الكونغرس ويعيثون الفوضى في أرجائه، وسط مواجهات عنيفة مع رجال الشرطة.
كان من الصعب تصديق ما يحصل في بلد تغنّى على الدوام بقوة مؤسساته وخضوعه لمفاعيل الديموقراطية وتداول السلطة. هي سابقة منذ ان تزعمت الولايات المتحدة الاميركية العالم، مرة بالشراكة مع الاتحاد السوفياتي ومرة اخرى بمفردها.
هي نهاية تراجيدية لا بل ربما ساخرة، لعهد صاخب تولّاه رئيس مثير للجدل جاء من خارج «الاستبلشمنت» الاميركي.
وقد يكون من المبكر بعض الشيء التطرّق الى «القِطَب» المخفية التي واكبت اقتحام مبنى «الكابيتول هيل»، لكن لا بدّ من إيراد بعض ما بدأ ينكشف.
صحيح انّ ترامب كان يتحدث باستمرار عن رفضه القبول «بالتزوير» الذي شاب عملية الانتخاب على حدّ وصفه، لكن الأجواء الرسمية الاميركية كانت واثقة بأنّ الكونغرس سيصدّق على فوز جو بايدن بالرئاسة، وانّه سيؤدي اليمين الدستورية في العشرين من الشهر الجاري، حتى ولو لم يحضر ترامب احتفال التسليم والتسلّم.
لكن اوراق ترامب بدأت تحترق الواحدة تلو الأخرى بين يديه. وآخرها كانت الضربة التي تلقّاها هو والحزب الجمهوري، في خسارة مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، التي اعتُبرت دائماً معقلاً جمهورياً، وحيث تسجّل الانقسامات العنصرية نسبة مرتفعة.
كان يأمل ترامب ان يؤدي الفوز في جورجيا الى استنهاض المزيد من قاعدته، وتعزيز حجته بحصول تزوير في انتخابات الرئاسة. لكن النتيجة كانت صدمة فاجأته، بخسارة المقعدين، وبالتالي خسارة الجمهوريين مجلس النواب والشيوخ. وعوض تعزيز الالتفاف حوله، فإنّ الهزيمة ادّت الى إلقاء كبار المسؤولين في الحزب الجمهوري باللوم على سلوك ترامب، وإجهاض ما كان ينبغي ان يكون انتصاراً سهلاً، لا سيما بعد الكشف عن المكالمة الفضيحة مع مسؤول الولاية، لجهة دفعه «لتدبّر» حوالى 20 الف صوت لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية.
في الواقع، خاف الاميركيون من اندفاع ترامب لضرب روحية نظامهم الديموقراطي، وهو كان يرفع سقف مواجهته بهدف اختصار الحزب الجمهوري بشخصه، تماماً كما يحصل عادة في بلدان العالم الثالث.
وبخلاف الصورة الظاهرة، فإنّ ترامب باشر التخطيط لإجهاض سعي الكونغرس للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية منذ اسابيع عدة وربما منذ اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية.
واليوم، بات مفهوماً اكثر لماذا عمد الى اقالة وزير الدفاع وبعض معاونيه، وتعيين موالٍ له في موقع القائم بأعمال وزير الدفاع.
في الواقع، فإنّ المجموعة التي تناصر ترامب هي في قسم كبير منها من المتعصبين المستعدين للقتال والشغب، فيما المعارضون له لا يمتلكون العصب نفسه. لذلك اعتقد ترامب انّ عرض «عضلاته» قرب الكابيتول هيل، ولو ادّى ذلك الى اقتحام المبنى قبل انعقاد جلسة التصديق على فوز بايدن، سيؤدي الى ارهاب اخصامه ودفعهم الى تغيير قرارهم.
وقبل ايام معدودة من موعد الجلسة، كانت التقارير الأمنية تتحدث عن اعمال شغب مدبّرة سترافق تظاهرة انصار ترامب.
لذلك، طلبت عمدة واشنطن موريل باوزر، وهي من اصول افريقية، من وزارة الدفاع الاميركية، توفير وحدات من الحرس الوطني لمنع حصول اعمال شغب. وعادت وكرّرت طلبها يوم التظاهرة. لكن البنتاغون رفض طلباتها. وقبل ساعات من بدء التظاهرة وردت تقارير حول وجود قنابل في بعض ارجاء واشنطن. والأهم ما تردّد حول وجود تساهل متعمّد من بعض رجال الشرطة مع المتظاهرين، وهو ما ادّى الى فتح ممرات امام اقتحام المتظاهرين لمبنى الكابيتول هيل.
لاحقاً برّر مسؤولون في الشرطة أنّهم اضطروا الى سحب العديد من عناصرهم لمعالجة ما تردّد حول وجود قنابل في بعض ارجاء العاصمة الاميركية، وهو ما ادّى الى ضعف حماية مبنى الكونغرس.
ولكن حسابات ترامب المجنونة انقلبت عليه. فما ان بدأت عملية اقتحام مكاتب الكونغرس، حتى انقلب على ترامب معظم مسؤولي الحزب الجمهوري المتحسسين اساساً من طموحات ترامب، لإخضاع الحزب لسلطته الكاملة، على شاكلة احزاب العالم الثالث، ووفق طريقة «عبادة القيادة السياسية» او الزعيم الابدي. والواقع السياسي في لبنان زاخر بهذه الامثلة وبهذا السلوك، الذي يريد السلطة بأي ثمن ومدى الحياة، ولو على حساب مصير الدولة ومؤسساتها واستقرار ابنائها. هو مرض السلطة الذي اصاب ترامب على الطريقة «اللبنانية» وايضاً العربية.
ومع اقتحام مبنى الكابيتول هيل، ساد شعور خوف على مؤسسات الدولة وعلى استقرارها، واحتمال اندلاع اعمال عنف وتمدّدها الى مختلف الولايات. لذلك ضغط اقرب المقرّبين على ترامب. صحيح انّ نائبه مايك بينس كان قد اتخذ قراره مسبقاً باحترام قواعد اللعبة السياسية، لكن شخصيات اخرى كانت من اكثر المقرّبين لترامب رفضت مسرحية «المظلومية» التي حاول ان يلعبها ترامب، وانحازت الى جانب استمرارية الدولة وحماية مؤسساتها.
مستشار الامن القومي روبرت اوبراين ضغط بقوة، وكذلك السيناتور ليندسي غراهام الذي عُرف بأنّه من اشدّ داعمي ترامب، وفي ما بعد صرّح غراهام متوجّهاً الى ترامب وهو يقول: «هذا يكفي».
ومن ثم بدأت استقالات كبار الموظفين، لا سيما في البيت الابيض. عندها فقط وتحت الضغط المتزايد، غرّد ترامب طالباً من انصاره العودة الى ديارهم.
امل ترامب ان تكون التظاهرة هي البداية، لكنها كانت فعلياً النهاية التراجيدية. فعند وصول رجال ادارة بايدن، ما من شك انّ خطوات ملحّة وسريعة ستحصل، بدءاً من حملات تطهير داخل الشرطة والاجهزة الامنية، ومن ثم فتح الملفات القضائية بوجه ترامب، لا سيما موضوع التهرّب الضريبي، وبموازاة ذلك، السعي الى معالجة الانقسام الداخلي الحاصل.
خلال المعركة الانتخابية اظهرت استطلاعات الرأي، انّ اولوية الشارع الاميركي هي معالجة العنصرية والجريمة وكورونا والاجهاض.
لكن الاجابة التي اقلقت الجميع، كانت رداً على سؤال: «هل تؤمن بأنّ الله اراد ترامب ان يكون رئيساً»؟ وبما معناه: هل انّ ترامب هو مُرسل من قِبل الله؟ يومها أجاب نصف «الجمهوريين» بنعم.
يومها كان ترامب قد نجح في تطبيق مبدأ عبارة «القائد»، وهو من دون شك ما اقلق الزعماء الجمهوريين، وايضاً صنّاع السياسة الاميركية.
يحتاج بايدن الى عمل داخلي شاق لإعادة الثقة بالمؤسسات الحاكمة. فإعادة توحيد البلاد ليست مسألة سهلة.
قبيل التظاهرة صرّح نجل ترامب بأنّ الرسالة يجب ان تكون بمثابة تحذير للجمهوريين في الكونغرس، بأنّهم فقدوا سلطتهم. ورسالة اخرى الى الذين ليسوا مستعدين للقتال فعلياً، والذين لم يفعلوا شيئاً لوقف السرقة. واضاف دونالد ترامب جونيور: «هذا لم يعد حزبهم الجمهوري، هذا هو حزب دونالد ترامب الجمهوري». لذلك كان لا بدّ لأركان الحزب ان يقلقوا.
وكما في ديموقراطيات بلدان العالم الثالث يصبح القائد شبه إله، ويعتمد من جهة على تخويف انصاره ومن جهة اخرى على المظلومية اللاحقة به، وبأنّ كل العالم يريد أن يسحقه.
في هذا الوقت، بدا رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مترقباً لما يحصل في واشنطن، قبل ان يستنكر متأخّراً. فهو خائف، لأنّ بايدن يعمل على ملء ادارته بالحرس القديم المحسوب على باراك اوباما.
فوفق المعلومات التي رشحت، فإنّه من المرجح ان يعيّن بايدن فيكتوريا نولاند كوكيله للشؤون السياسية في وزارة الخارجية، وهي عملت مع ادارة اوباما.
وكذلك بريت ماكفورك كرئيس قسم الشرق الاوسط وافريقيا في مجلس الامن القومي، وهو كان عمل مع ادارة اوباما كمبعوث خاص، واستقال ايام ترامب عام 2018 احتجاجاً على قرار سحب القوات الاميركية من شمال شرق سوريا. كما عمل على الملف العراقي ايام جورج دبليو بوش.
لذلك يشعر نتنياهو الذي يتجّه الى انتخابات صعبة في آذار المقبل، انّ الصدام مع ادارة بايدن سيبدأ قريباً. لدرجة انّ سفير اسرائيل في واشنطن والمنتهية مهمته رون ديرمر، ابلغ من التقاهم، قلقه من التأثير الذي سيحظى به جون كيري وسوزان رايس على السياسة الخارجية الاميركية. والمعروف انّ علاقة كيري بنتنياهو كانت متوترة بسبب الاتفاق النووي مع ايران والملف الفلسطيني.
كذلك، فإنّ رايس لم تلتق ابداً السفير الاسرائيلي ديرمر. كما إنّ نتنياهو قلق من احتمال تعيين لويندي شيرمان لمنصب نائب وزير الخارجية، وهو كان المفاوض الرئيسي حول الاتفاق النووي مع ايران.
في الواقع، تتحضر ادارة بايدن لملفين خارجيين اساسيين، وهما ايران والصين. وهي تعمل على ترتيب تعييناتها على هذا الاساس.
لكن السؤال الاهم هو، الى اي مدى ستؤثر الاحداث الخطيرة التي حصلت على الخطة الموضوعة؟ وهل انّ الانطلاقة الفعلية للمشروع الخارجي ستتأخّر بسبب اولوية معالجة الأخطار الداخلية؟