تمخضت محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانقلابية على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي أعطت الفوز إلى المرشح الديمقراطي جو بايدن.. تمخضت عن فشل مدوّ واضطرار ترامب للتسليم بالهزيمة وإعلان موافقته على تسهيل الانتقال السلس للسلطة في العشرين من الشهر الحالي وفق ما تنص عليه آليات النظام الانتخابيّ الأميركي بعد المصادقة على نتائج الانتخابات الرئاسية.
لكن هذا الإقرار من قبل ترامب لم يحصل إلا بعد أن دفع بأنصاره إلى اقتحام الكونغرس وتعطيل جلسة الكونغرس للمصادقة على نتائج الانتخابات مما أخّر الجلسة لساعات قبل أن تتمّ السيطرة على الوضع وعودة الكونغرس (بمجلسي الشيوخ والنواب) للاجتماع فجراً برئاسة نائب الرئيس مايك بنس ورئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي، والمصادقة على نتائج المجمع الانتخابيّ بفوز بايدن.
غير أنّ هذه النهاية لمحاولات ترامب الفاشلة لقلب نتائج الانتخابات، كشفت هشاشة واهتزاز النظام الرأسمالي الذي تقوم عليه الإمبراطورية الأميركية، وكادت تذهب بها إلى الفوضى والتداعي والحرب الأهلية وانفراط عقد الولايات المتحدة، لولا العوامل التالية:
أولاً، رفض القسم الأكبر من الجمهوريين الموافقة على الرضوخ لرغبات وضغوط ترامب للانقلاب على نتائج الانتخابات.. وإعلان العديد من قادة الجمهوريين السابقين عدم موافقتهم على تأييد توجهات ترامب الانقلابية، ولوحظ انّ الرئيس الأسبق جورج بوش الابن وصف ما جرى من اقتحام مبنى الكونغرس بأنه يليق بجمهوريات الموز.. في دلالة على مستوى الضعف الذي بات عليه النظام الأميركي الذي طالما ادّعى، زيفاً، أنه النموذج والمثال الذي على دول العالم الاقتداء به.
ثانياً، امتناع البنتاغون عن السير في خطط ترامب لإعلان حالة الطوارئ، بعد اقتحام الكونغرس من قبل المتظاهرين، في سياق سيناريو كان يتوقع ان يؤدّي أيضاً إلى احتجاجات أنصار ترامب في العديد من الولايات لتبرير إعلان حالة الطوارئ… وهو ما لم يحصل.
وبذلك تلقى ترامب صفعة جديدة من الديمقراطيين والجمهوريين معاً بالتصويت الساحق ضدّ بعض الاعتراضات على نتائج الانتخابات التي رفضت… على أنّ مصادقة الكونغرس على فوز بايدن، جاءت بمثابة تتويج للمعركة الانتخابية الساخنة التي حاول خلالها ترامب ان يقلب نتائجها بادّعاءات التزوير حيناً وتهديد حكام ومسؤولي الولايات حيناً آخر، وأخيراً تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس، لكن ذلك لم يؤدّ سوى إلى جعل رحيل ترامب عن البيت الأبيض يعتريه الإذلال والمهانة، لأنه سيتمّ بالإكراه، وهو ما تجسّد في إعلان ترامب مباشرة بعد تصديق الكونغرس على فوز بايدن، بأنه سيكون هناك انتقال سلس للسلطة في 20 الشهر الحالي.
ماذا يعني ذلك؟
وهل سيحضر ترامب حفل تنصيب بايدن؟
أم أنّ العملية ستتمّ بشكل منظم من دون أن يكون ترامب حاضراً؟
المتوقع ان تحصل عملية تتصيب بايدن من دون حضور ترامب الذي لا يريد تكرس قبوله بحقيقة خسارته، فهو سيسعى إلى الاستمرار، بعد خروجه من البيت الأبيض، في حملة التشكيك بشرعية انتخاب بايدن.. ولهذا لم يعلن ترامب اعترافه بفوز بايدن ولم يقدّم التهنئة له.. هذه النتيجة إنما تعود إلى الأسباب التالية:
1 ـ رضوخ ترامب لموازين القوى، بعد أن خسر رهانه على دعم وتأييد حزبه الجمهوري، ونائب الرئيس مايك بنس.
2 ـ فشل ترامب في تحدي المؤسسة السياسية وإحداث انقلاب ضدّ نتائج الانتخابات، حيث فرضت المؤسّسة في نهاية المطاف على ترامب النزول من عليائه والتسليم بمغادرة البيت الأبيض في عشرين الشهر الحالي وتأمين انتقال السلطة بشكل منظم…
لكن ترامب بعد خروجه من البيت الأبيض سيفقد الحصانة، وسيواجه دعاوى وملاحقات قضائية، من جهات عدة.. ولهذا فإنّ جزءاً مهماً من معركة ترامب لعدم الإقرار بفوز بايدن، كان لأجل خلق عصب شعبي له وتعزيز قوته في الحزب الجمهوري لتحصين موقفه، اما بالنجاح في قلب نتيجة الانتخابات، وهو ما فشل فيه، أو منع ملاحقته قضائياً عندما يصبح خارج البيت الأبيض.. وهو يراهن بأنه في حال واجه الملاحقة القضائية سيكون قادراً على تحريك الشارع، تحت عنوان انّ مثل هذه الملاحقة إنما هي للثأر ممن انتخبوه.
لكن السؤال الذي طرح مباشرة بعد ما حصل، ما هو مستقبل الحزب الجمهوري.. هل يتصدّع وينقسم؟
من الواضح أنّ الحزب الجمهوري سوف يتعرّض للانقسام على خلفية الموقف من ترامب، وهذا ما تجسّد في انه رغم اقتحام المتظاهرين للكونغرس، استمرّ بعض النواب الجمهوريون في تأييد موقف ترامب.. الذي نجح أيضاً في تكوين كتلة شعبية وازنة مؤيدة له وقادر على تحريكها، الأمر الذي ظهر في تلبية هذه الكتلة لدعوته باقتحام الكونغرس، ومن ثم الانسحاب منه.
لا شكّ أنّ صورة الحزب الجمهوري قد اهتزّت، بعد أن قام ترامب بالزجّ به في معركة خاسرة.. وتراجعت شعبيته، ما أدّى إلى خسارته مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا لمصلحة الحزب الديمقراطي، مما سيمكّن الديمقراطيين من الإمساك بناصية القرار في الكونغرس بغرفتيه الشيوخ والنواب.
على أنّ انقسام وتصدّع الحزب الجمهوري، سوف يصب في مصلحة الحزب الدمقراطي، الذي إذا عرف كيف يستفيد من إحكام قبضته على السلطتين التنفيذية والتشريعية فإنه سوف يعزز هذه القبضة في الانتخابات النصفية لمجلسي النواب والشيوخ، بعد عامين من الآن.. غير أنّ إدارة بايدن ستكون أمام تحديات كبيرة لإخراج أميركا من أزماتها الداخلية وترميم الدور القيادي الأميركي على الصعيد الدولي والذي تصدّع وتراجع بفعل سياسات ترامب…
في المقابل فإنه من المتوقع ان تستمرّ الأزمة في الداخل الأميركي لأنّ قطاع كبير من الأميركيين الذين يؤيدون ترامب يرفضون الإقرار بشرعية بايدن، وترامب سوف يستمرّ في تحريضهم على هذا الرفض من خلال مواصلة القول انّ الفوز سُرق منه وتمّ تزوير النتائج بعد أن كانت لمصلحته…
فالقاعدة الشعبية لـ ترامب كبيرة وتدعمه وهي باتت معبّأة، وليس مستبعداً أن تتطوّر وتمتدّ الاحتجاجات في الفترة المقبلة إلى ولايات أخرى خصوصاً انّ ترامب بحاجة إلى ذلك لحماية نفسه من الدعاوى والملاحقات القضائية بتهم الفساد وإساءة استخدام السلطة ..
لكن هذه الأزمة المرجّح استمرارها وتصاعدها، مع احتمال ظهور حزب جديد يشكله ترامب منشقاً عن الحزب الجمهوري، إنما تعكس طبيعة الأزمة البنيوية التي تعاني منها الإمبراطورية الأميركية على الصعد كافة، الاقتصادية والمالية والسياسية.. والتي تنبع أصلا من العوامل التالية:
العامل الأول، تراجع وانحسار الهيمنة الأميركية على الصعيد الدولي نتيجة اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية للاقتصاد الأميركي، وتراجع معدلات نمو اقتصاد الولايات المتحدة وتدني حصتها من الناتج العالمي، لمصلحة تقدّم حصص دول صاعدة اقتصادياً مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول.
العامل الثاني، غرق أميركا بأكبر دين تعاني منه دولة في العالم، حيث تجاوز الدين العام الأميركي عتبة الـ 23 تريليون دولار، في حين ارتفعت نسبة العجز في الموازنة الى ما يفوق التريليون دولار يجري سداده عبر مزيد من الاستدانة.
العامل الثالث، فشل حروب أميركا العسكرية في أفغانستان والعراق نتيجة المقاومة الضارية التي تعرّضت لها القوات الأميركية المحتلة، والتي استنزفت قدرات أميركا، وكانت أحد أسباب تسعير نار الازمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وانفجارها عام 2008..
العامل الرابع، نشوء موازين قوى دولية جديدة على خلفية فشل حروب أميركا الإرهابية والاقتصادية ضدّ سورية والعراق وإيران وقوى المقاومة، وعودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية كلاعب اساسي انطلاقاً من حضورها العسكري القوى في سورية وتحالفها مع الصين وإيران..
هذه العوامل التي أدّت إلى مفاقمة الأزمة البنيوية للاقتصاد الأميركي وتراجع قوة الإمبراطورية الأميركية، ارتدّت على الداخل الأميركي بتفجر الأزمات المختلفة التي فاقم منها انتشار وباء كورونا، وجعل كلّ التناقضات، التي كانت غير ظاهرة، تطفو إلى السطح، مما ولّد ظاهرة ترامب..