خَصَّص السيد حسن نصرالله خِطابَه الأحدَ الماضي للشأنِ الإيرانيِّ، ووَعَد أنْ يُخصِّصَ خِطابَه المقبِلَ للشأنِ اللبنانيّ. هذا لا يعني أنَّ ما لإيران لإيران وما للبنان للبنان، بل أنَّ خِطابًا عن إيران الدولةِ الحاكمةِ، وآخَرَ عن لبنان الدولةِ المحكومَة. ورغمَ ذلك يُصِرُّ السيد نصرالله على أنَّ حزبَ الله "من أكثرِ المقاوَماتِ استقلالًا في التاريخ". إنْ كذلك، ماذا عن الولاءِ العقائديِّ والجُنديِّ في ولايةِ الفقيهِ والتلاحمِ مع الحرسِ الثوريّ؟ وماذا عن اتّباعِ نمطِ الحياةِ الإيرانيِّ والزيِّ الإيرانيّ؟ وماذا عن التماثلِ السياسيِّ والإمرةِ العسكريّةِ ووِحدةِ الساحات؟ وماذا عن التزوّدِ بالسلاحِ وتصنيعِ الصواريخِ والعطاءاتِ الماليّةِ؟ وماذا أخيرًا عن تماثيلِ قاسم سليماني وصورهِ التي فاق عدُدها في لبنان تماثيلَه وصورَه في إيران؟ اللبنانيّون فَقدوا سيادتَهم لكنّهم لم يَفقِدوا، بعدُ، عقولَهم.
إذا كانت هذه الاتّهاماتُ باطِلةً، فكان أجْدى بحزبِ الله أن يَسبِقَ الجميعَ ويُكذِّبَ قائدَ الحرسِ الثوريِّ "حاجي زاده" وقد أَعلن في 02 الجاري "أنَّ حزبَ الله يَملِكُ صواريخَ إيرانيّةً واكتَسَب فنَّ تصنيعِها أيضًا". لكنَّ ما جَرى تأكيدٌ لا تكذيب. لذا، إنْ كان من استقلاليّة لحزبِ الله فهْي عن لبنان وليس عن إيران.
قد يَمتعِضُ حزبُ الله من هذه "الاتّهامات". لكنَ اللبنانيّين ممتَعِضون أكثرَ من طريقةِ تعاطي الحزبِ معهُم. زادَها عليهم وما عادوا يَحتمِلون. فهو لا يَسألُ عن أحدٍ، ولا يُقيمُ وزنًا لأحدٍ، ولا يأخذُ برأيِ أحد. لا يُبالي بعقولِهم ومشاعرِهم، بمواقفِهم وخِياراتِهم، بأمنِهم واستقرارِهم، بتَوْقِهم إلى بناءِ دولةٍ والعيشِ معًا بسلام. لا يَكترثُ لرفضِهم منطقَ السلاحِ ومصادرةِ القرارِ اللبناني، ولا يَعبأُ بالتسَبُّبِ في إفقارِهم وتجويعهم وبعَزلِهم عن العالم. حين تعاقِبُ أميركا حزبَ الله لا يَتضرّرُ، لكن حين هو يَعزِلُ لبنانَ، اللبنانيّون يَتضرّرون. اللبنانيّون لا يرفضُون مَن يَمثّلهُم حزبُ الله، بل ما يَفعله هو. نحن نَعتبر جماعةَ حزبِ الله إخوانًا وشركاء، وهو يَعتبر الّذين يعارضونَه أخصامًا، وأحيانًا أعداءً، ويروحُ يَتّهمُهم بالعمالةِ والخيانة. لا يُجوز أنْ يَحوّلَ حزبٌ طائفةً ضِدَّ جميعِ الطوائف. ولا يستطيعُ حزبٌ أن يُهيْمِنَ على الآخَرين، ويَغتاظَ إذا عارضَه الآخرون وانتقَدوه.
كان اللبنانيّون يُفضِّلون أن تكونَ قُدراتُ هذا الحزبِ وبيئتُه ومجتمعُه وقيمُه جُزءًا من دولةِ لبنان ونظامِها وشرعيّتِها وبيئتِها وصيغتِها (والتطويرُ مُتاح). فحزبُ الله لا يُمثّلُ طائفةً ثانويّةً أو هامشيّةً في لبنان، فالشيعةُ شكّلوا طَوالَ التاريخِ اللبنانيِّ، الوسيطِ والحديث، حالةً كِيانيّةً ووطنيّةً، ومَرجِعيّةً مؤثِّرةً في بلادِ فارس، وقُدوةً في التعايشِ
الاجتماعيِّ والسياسيِّ مع المكوّناتِ اللبنانيّةِ الأخرى، وبخاصّةٍ مع المكوّن المسيحيّ. حتّى بَدءِ ثمانيناتِ القرنِ العشرين، واجَه المسيحيّون والشيعةُ الأعداءَ ذاتَهم وقَبِلوا الـمُغِيثين ذاتَهم، وهم في الأصلِ لم يختاروا لا هذا ولا ذاك، لكنّهم اضْطُرّوا إلى ذلك ليحافظوا على الوطنِ وليتَفادوا الإبادة. وفيما وَضَع المسيحيّون مقاومتَهم في كنفِ الدولةِ سنةَ 1982 ثم سنةَ 1992 وساروا في مصالحةِ الطائف، أطلقَ حزبُ الله مسارًا شيعيًّا عسكريًّا وجِهاديًّا منفصِلًا عن الدولةِ، واقتَرنَ بالمشروعِ الإيرانيِّ على حسابِ المشروعِ اللبناني. إنَّ التحريرَ على أهميّتِه يبقى فعلًا عسكريًّا مجرَّدًا من الفائدةِ الوطنيّةِ ما لم يَصُبّ في الدولةِ وشرعيّتِها.
لا نأخذُ على حزبِ الله ممانعتَه إسرائيل، بل ممانَعتَه الدولةَ اللبنانيّة. فالعَداءُ لإسرائيل ليس وحدَه المعيارَ الأوّلَ للوطنيّة، بل الالتزامُ بالدولةِ والولاءُ للبنان فقط. والعداءُ لإسرائيل لا يُستَخدمُ ذريعةً للانفصالِ عن الدولةِ وتعطيلِ مؤسّساتِها، وتكوينِ جيشٍ بموازاةٍ جيشِها، وربطِ انتخاباتِها النيابيّةِ والرئاسيّةِ وتأليفِ حكوماتِها بالصراعات الخارجية، والاشتراكِ في حروبٍ إقليميّةٍ. وخلافًا لما نَظُنُّ، إنَّ جوهرَ الخلافِ بين اللبنانيّين وحزبِ الله ليس السلاحَ، إنما لبنان. فما إن يؤمنُ الحزبُ بماهيّةِ لبنان ودورِه ورسالتِه وخصوصيّتِه حتّى يُـحَلَّ موضوعُ السلاحِ تلقائيًّا، إذ سيكتشِفُ حزبُ الله أنَّ سلاحَه لا يتلاءمُ مع دورِ لبنان. لبنانُ التعدّديُّ والديمقراطيُّ والقويُّ وملتقى الحوارِ والسلامِ هو لبنان الذي يُثير اهتمامَ العالم، لا لبنان الساحةِ المفتوحةِ والصواريخِ المباحَة.
إذا كان السيّد حسن نصرالله يؤكّد: "لولا فضلُ المقاومةِ لما كان أحدٌ يسأل عن لبنان ونُقطةٌ على السطر"، فليَسْمح لنا ـــ وهو السماحةُ ـــ أنْ نضعَ نقاطًا على كلماتِه. إنَّ لبنان الرسالةَ لا لبنانَ حزبَ الله هو ما يَهتَمُّ العالم به. لا يسألُ العالمُ عن لبنانَ حزبِ الله ألّا ليَفرِضَ عليه العقوباتِ الماليّةَ والمصرفيّةَ والاقتصاديّة، ليُعلِّقَ استخراجَ النفطِ ويُجمِّدَ المساعداتِ والهِبات، ويُشكِّكَ بالشرعيّةِ المتحالفةِ معه، ليُضيّقَ السفرَ على اللبنانيّين ويَطرُدَ العاملين في بعضِ الدول. قبلَ حزبِ الله كان العالمُ يسألُ عن لبنانَ إيجابيًّا، بل كان لبنانُ هو العالم. كانت الاستثماراتُ المختلِفةُ والوكَالاتُ التجاريّةُ والمصارفُ الأجنبيّةُ، والمنظّماتُ العالميّة. كان السيّاحُ يَتدفَّقون إليه ورجالُ الأعمال، وكانت المؤتمراتُ العربيّةُ والدوليّةُ تُعقد فيه. كان لبنانُ سيّدًا وغنيًّا ومِثالًا، وصارَ اليومَ محتلًّا ومتسوِّلًا وتِمثالًا.
حان وقتُ المصارحةِ البنّاءةِ والقرارِ والخِيار. إنَّ الأممَ، وبخاصّةٍ في هذا الشرق، تحارَبت أكثرَ مما تَسالَـمت. وما أدّت جميعُ الحروب إلى انتصارِ دولةٍ على أخرى، ولا إلى تَقدّمٍ شعوبِ الشرقِ عمومًا. انتصاراتُ الشرقِ وهزائمُه صناعةٌ أجنبيّة، بينما تخلّفُه صناعةٌ محليّة. مجدُ الأممِ أن تَضعَ استراتيجيّاتِ سلامٍ لا استراتيجيّاتِ حروب. مجدُ الأممِ أن تَرسُمَ مدى التلاقي لا حدودَ الجفاء. وما يَصُحُّ على الشرقِ يَصُحُّ على لبنان قبل سواه. أسبابُ الشراكةِ بين اللبنانيّين أقوى من ذرائعِ الصراعِ وأكثرُ منها إذا وَضعت مكوّناتُ لبنان طموحاتِها في مشروعِ الدولةِ اللبنانيّة لا في مشاريعِ الدولِ الإقليميّة والعالميّة. إنَّ ولاءاتِ المكوّناتِ اللبنانيّةِ للخارجِ لا تساوي قيمةَ الذاتِ اللبنانيّة. المكوّناتُ اللبنانيّةُ أسمى من "حلفائها"، فلمَ لا تكُفُّ عن الخضوعِ لهم وتنفيذِ إملاءاتِهم؟
جميعُ البدائلِ التي تراودُ ذهنَ البعض في لبنان لا تُقارَن بعظمةِ الكيان اللبناني وصيغته الحضاريّة. ما هو البديلُ الأفضلُ من التعدّديةِ والميثاق؟ من الديمقراطيّةِ وتداولِ السلطة؟ من النظامِ الليبراليِّ والحريّة؟ من الثقافةِ والمدنيّة؟ من
المساواةِ والتضامن؟ من الانفتاحِ والاعتدال؟ من الأمنِ والسلام؟ وما هو البديلُ الأفضل من الهويّةِ اللبنانيّة، وهي جامعةُ هويّات الشرقِ والغربِ وخُلاصتُها؟ هل تَعتقدون حقًّا أن البديلَ هي صواريخُ قاسم سليماني؟