لم يكن أحد وراء الأبواب الموصدة للكونغرس الأميركي وخارجه، يتوقع أن تجتاحه جحافل المتظاهرين وأن يتحول "الكابيتول" إلى ساحة للفوضى والغوغاء. كان للحدث الكارثي وقعه المدوي في مختلف الأوساط وعلى كل المستويات السياسية والأمنية والإعلامية والاجتماعية. حتى أكثر السيناريوهات "سوداوية" لم تصل إلى تصور ما حصل ذلك اليوم.
ولكن هل كان يعلم الرئيس ترمب بالأمر؟ وهل كان ينتظر تطور أعمال الشغب وامتدادها إلى باقي الولايات؟ وهل كان ينوي ويخطط لإعلان حالة الطوارئ وإنزال الجيش والحرس الوطني إلى الشوارع، ومن ثم إيقاف التصديق على نتائج الإنتخابات؟ كل الاحتمالات واردة مع شخص كترامب، الذي لم يعدم وسيلة وهو يحاول قلب النتائج، حتى أنه من بعد انتخابات الثالث من نوفمبر لم يمارس مهامه كرئيس لبلاده، وإنما تفرّغ للشأن الإنتخابي وركّز كل جهوده لاستعادة مستحيلة لعرشٍ انتهت صلاحيته.
ولكنّ السؤال المترتب على تلك الفرضية، هو: كيف انقلبت الأمور على ترمب، ووقع في الحفرة التي حفرها لغريمه جو بايدن؟
مثل الجميع، لم يتوقع ترمب أن يتمكن المتظاهرون من اقتحام مبنى الكابيتول بهذه السهولة، وهذا الأمر أفشل خطّته التي كانت تقتضي حصول اشتباكات قوية ودامية مع الشرطة التي تراخت، ولم تقاوم المحتجين، وهو ما حال دون وقوع قتلى وجرحى بأعدادٍ كبيرة. والأهم، هي الصورة التي انقلبت بشكل دراماتيكي، من متظاهرين مُعتَدى عليهم إلى معتدين همجيين على كل أميركا. بينما لو كان المشهد الذي نقلته الشاشات ومواقع التواصل لاعتداءات على متظاهرين وإفراط باستعمال القوة، ووقوع ضحايا بأعدادٍ كبيرة حسب الخطة. لكنا أمام نتائج مختلفة، وتعاطٍ إعلامي مغاير، وهو ما كان يرجوه ترمب.
وفي كل هذه التحركات، يستفيد ترمب من قاعدة جماهيرية كبيرة يبتّز بها أعضاء حزبه، ويوقع الحرم على مَن يعارضه منهم، وليس أصدق تعبيراً على ذلك، سوى كلام السناتور ليندسي غراهام، وهو حليف ترمب، حين قال: "كفى يعني كفى"، وهو تعبير عن حجم الضغوطات التي تلقاها من الرئيس، وإلاّ كيف لمُشّرع أن يتراجع عن اعتقاده بأنّ هذه الإنتخابات مزوّرة، ليصبح جو بايدن رئيساً منتخباً وشرعياً بلحظة.
هل هناك مُتّسع من الوقت لعزل ترمب، وهل تنجح المحاولة هذه المرّة، أم أن العزل يرمي لمنعه من الترشح للرئاسة عام 2024؟
يتم الحديث عن استعمال التعديل 25 من الدستور الذي يجيز لنائب الرئيس الأميركي مع أغلبية ثلثي الحكومة بالتقدم بطلب إلى الكونغرس يعلمهم فيه، بأنّ الرئيس غير قادر على ممارسة مهامه بسبب خلل عقلي أو جسدي. وقد هددت رئيسة المجلس النيابي نانسي بيلوسي، إذا لم يفعل نائب الرئيس مايك بانس ذلك، فإنها ستباشر بتقديم مشروع العزل في الكونغرس.
وفي كلتا الحالتين، يتطلب العزل موافقة الأغلبية البسيطة في مجلس النواب وأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، حيث تكمن صعوبة.. وربما استحالة تأمين العدد الضروري من أعضاء الحزب الجمهوري الذين ما زالوا يخشون من نقمة أنصار ترمب، ناهيك عن ضيق الوقت، الذي لم يتبق منه سوى 12 يوماً على موعد استلام جو بايدن مقاليد السلطة. وهو ما يجعل الخطوة محض سياسية، يراد منها الإستثمار الإعلامي والشعبوي والضغط على ترمب، لعدم الإقدام على مزيد من الحماقات. والأهم، العمل على إقرار تشريع يمنعه من الترشح للرئاسة مرّة أخرى عام 2024، كونه استحق العزل، وهو مانع له من الترشح، وهذه مسألة لن تخفى على نانسي بيلوسي، داهية الحزب الديمقراطي وامرأته الفولاذية.
واليوم هناك دعوات واسعة في أميركا تطالب بمحاكمة ترمب، وحالياً تبحث وزارة العدل في احتمال وجود أدلّة تثبت تخطيط ترمب لاحداث الأربعاء. وعلى الأرجح، فإن الإدارة المقبلة بعد أيام، لن تتقاعس عن ذلك، وهي ستستثمر ذلك للضغط على ترمب واستصدار حكم قضائي يمنعه من الترشح للرئاسة عام 2024. كذلك، يكثر الحديث عن إمكانية منح نفسه عفواً رئاسياً، وقد بحث ترمب بهذا الإحتمال مع مستشاريه، وهي مسألة ضبابية من الناحية الدستورية، ولن يُكتب لها النجاح لأنّ الدستور أعطى هذا الحق للرئيس كي يعفي به عن آخرين وليس عن نفسه، ولا يتحقق ذلك إلاّ باستقالته على أن يمنحه عفواً رئاسياً نائبه مايك بنس، الذي سيصبح الرئيس لأيامٍ معدودة. ربما هذا أحد المخارج ليوم التنصيب، الذي لن يحضره ترمب، ويعوض غيابه بنس، لكن بحلة رئاسية، حتى ولو كانت صورية.
ترمب.. كابوس الجمهوريين الذي لا مفرّ منه
لقد أصبح ترمب كابوساً للجمهوريين، يتوقون للتخلص منه، وقد أعيتهم جميع الوسائل، فهو اضطّر حزبه لمجاراته على مدى 4 سنوات هشّم فيها صورة القيادة، وجعلها في بيته، وفي عهدة صهره وأصدقائه. لقد قاد الحزب إلى مستنقع مواجهة الأقليات، وقاد نزعة عنصرية داخلية قسّمت أميركا، وتسببت بأعمال شغب في عموم الولايات، وانتهت قبل يومين بأكبر شرخ اجتماعي وسياسي تعيشه أميركا منذ الحرب الأهلية عام1861. وهو من الآن يتوعد كلّ من لم يصوت لصالح الطعن بنتائج الإنتخابات، بإخراجه من الحياة السياسية في الإنتخابات النصفية العام المقبل. وقد مهّد لذلك بتأسيس حركة "احفظوا أميركا "، وقد جنى حتى الآن أكثر من 200 مليون دولار من التبرعات التي سيستعملها لدعم من يشاء من المرشحين، وهي الحركة التي ستميّز قواعده عن قواعد الحزب الجمهوري التقليدية، وستستحوذ على معظم التبرعات ليعيد توزيعها كما يشاء.
ومن المتوقع أن تتوسع مروحة المعارضين داخل الحزب الذي تعيد قيادته رصّ صفوفها لمواجهة ترمب وتقليم أظافره، لذلك لم تنبر القيادة الجمهورية للدفاع عنه، بل تركته وحيداً يواجه هجمة الديموقراطيين. فنائبه بنس لم يجاريه، وأصبحت القطيعة بينهما واضحة للعيان، وزعيم الأغلبية ميتش ماكونيل يعارضه بشدّة، كذلك الرجل الثاني في الحزب جون تون، إضافة إلى أكثر من 40 عضواً في مجلس الشيوخ صوتوا بعكس إرادته. كذلك، فقد استقال حتى الآن من إدارته وزيرتان وأربعة مستشارين. وترمب يعلم بأنّ رفع الغطاء عنه في الكونغرس سيعرضه لمحاكمات ستُنهي حياته السياسية، ولو كان الثمن خسارة للحزب الجمهوري بالجملة. لذلك فإنّ ترمب سيمسك العصا من الوسط، وسيعمل على تهدئة الشارع لتمرير يوم التنصيب بسلام، ومن ثمّ معاودة التركيز على بناء حركته السياسية، التي ستأكل من صحن المؤسسة التقليدية لحزبه.
هل يستطيع ترمب الإقدام على عمل عسكري كضرب إيران ؟
لم يعد خافياً بأنّ ترمب طرح إمكانية ضرب إيران على مساعديه ومستشاريه بعد خسارته للإنتخابات، وقد كان الإجماع وقتها من قبل قادته العسكريين بعدم اللجوء إلى ذلك الخيار الذي قد يفجر حرباً طويلة الأمد، كما ذكرت صحيفة الـ "نيويورك تايمز" . أما اليوم، فإنّ الإقدام على شنّ حربٍ على إيران سيُدخله حتماً في دوامة المحاكمة بخرق الدستور، لأنّ إعلان الحرب إذا لم يتم الإعتداء على أميركا يتطلب موافقة الكونغرس أولاً، فلا خطر إيران داهم على أميركا، ولا هي قامت بعمل عسكري يستهدف المصالح و المنشآت الأميركية.
وأخيراً، كيف يمكن لرئيس يطالب الحزب الديمقراطي بعزله، وكذلك بعض الجمهوريين، أن يشن حرباً، لاسيما وأنهم شاهدوا بأم أعينهم إحدى حفلات جنونه. ومن المؤكد، أن أياً من قادته العسكريين لن يستجيب لأوامر رئيسٍ أصبح سابقاً قبل انتهاء ولايته، ويضغط الزناد في الوقت الضائع ...