لساعاتٍ معدودات، نسي اللبنانيون أزماتهم المتفاقمة على مختلف المستويات، من الفراغ السياسيّ، إلى الانهيار الأمنيّ، والإفلاس الاقتصاديّ، والتضخّم الماليّ، ونسوا الكارثة الصحية المحدقة، مع تسجيل فيروس كورونا نسباً قياسيّة من الإصابات، كما تلك النفسيّة والاجتماعيّة الناجمة عن تداعيات زلزال الرابع من آب، الذي لم ينتهِ فصولاً بعد.
نسي اللبنانيون أنّهم منذ أشهر، ينتظرون "الفَرَج" من الولايات المتحدة، بعدما علّقوا استحقاقاتهم على عقارب الساعة الأميركيّة، في ظلّ اعتقاد شريحةٍ واسعةٍ منهم، وبعضهم ممّن يُصنَّفون ضمن "النّخبة"، بأنّ دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض، إذا ما حصل وفق ما هو مجدول في 20 كانون الثاني الجاري، سيؤدّي تلقائياً إلى ولادة حكومتهم الموعودة.
نسى اللبنانيون كلّ ما سبق، ليتفرّغوا لـ "الشماتة" بالمشاهد الآتية من بلاد "العم سام"، والتي بدت للوهلة الأولى "مُستنسَخة" من أحداثٍ صُنِعت في المنطقة، وأنتِجت في لبنان تحديداً، فوُضِعت الديمقراطية الأميركية في "قفص الاتهام"، بعدما تمّت "محاصرتها"، وتحوّلت إلى مادة تندُّر وسخرية، قد تلازمها لفترةٍ طويلة لن تقف عند حدود انتقال السلطة.
مشهد غير مألوف
لا شكّ أنّ المشهد الأميركيّ الذي تصدّر وسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين، لم يكن مألوفاً، ولا حتى متخيَّلاً، إذ لم يسبق أن أحدثت إجراءات انتقال السلطة من رئيسٍ إلى آخر في الولايات المتحدة، أيّ ضجّةٍ كالتي ترافقها هذه الأيام، حتى أنّ جلسة المصادقة على نتيجة الانتخابات كانت تمرّ من دون أن يشعر بها أحد، لكونها شكليّة وبروتوكوليّة إلى حدّ بعيد.
وإذا كان كلّ المسار الذي بدأه الرئيس دونالد ترامب منذ رفضه الاعتراف بهزيمته في الانتخابات في تشرين الثاني الماضي، وتوّجه بمعارك قانونيّة وقضائيّة وشعبويّة أصرّ على خوضها حتى الرمق الأخير، غير مألوفٍ في الشكل والمضمون، فإنّ "الترجمة" المنطقية والواقعيّة لمثل هذا المسار، كان يُتوقَّع أن تتجسّد في الشارع، بعد "تعبئته" بما يلزم، وعلى أعلى المستويات.
إلا أنّ "المفاجئ"، وفق ما يقول الكثير من المراقبين، تمثّل بطريقة تعامل السلطات مع تحرّك الشارع، والذي جاء باعتراف مسؤولين أميركيّين "دون المستوى"، بعدما نجح أنصار الرئيس المنتهية ولايته في خرق كلّ الحواجز، واقتحام مبنى الكونغرس الأميركيّ، والتنقّل بين باحاته، وصولاً حتى تشكيل تهديد جدّي وفعليّ للموجودين دخله، وبينهم النواب الذين تمّ تأمين خروجهم بطرقٍ هوليوودية، إن جاز التعبير.
ولعلّ "الشماتة" اللبنانية مثلاً انطلقت من هذا "التفصيل"، عبر المقارنة بين الشرطة الأميركية المولجة حماية مبنى الكابيتول، وحرس مجلس النواب في لبنان، الذي نجح في الوقوف سدّاً منيعاً أمام "الثوار"، في كلّ محطات الحراك المدني والمطلبي، وفي أوج "الانتفاضة" في تشرين الأول 2019، ولم يتح لهم فرصة "التسلّل" إلى أروقة البرلمان، أو حتى مداخله، رغم كلّ المحاولات والضغوط التي بُذِلت في هذا الإطار.
أين الديمقراطية؟
من هذا المنطلق، وجدها اللبنانيون فرصة "سانحة" ربما لـ "الشماتة" بواشنطن، التي لطالما قدّمت "الأطروحات" حول الديمقراطية وجذورها وأصولها، وأطلقوا الطرائف والنكات، التي وصلت لحدّ القول إنّ رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي طلبت "النجدة" من رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، استناداً لخبرته، بل إنّ الشرطة استدعت "أبو خشبة" لضبط الشارع "الثائر" بالقوّة.
لكن، أبعد من "سَكرة الشماتة"، إن جاز التعبير، ثمّة من ذهب بعيداً ليسأل عن "الفكرة" وراءها، فيما الديمقراطية "تنازع"، بعدما أضحت "وهماً" يُستخدَم لـ"التضليل" في أفضل الأحوال، وطالما أنّ اللبنانيين عاجزون عن مجرّد تأليف حكومةٍ يقال إنّها ينبغي أن تتصدّى للإنقاذ، وهم يربطونها بالرئيس الأميركيّ، ويجاهرون بأنّها لا يمكن أن تولد قبل تسلّم الرئيس الجديد زمام الأمور.
قد لا يكون هناك مشكلة في "الشماتة"، بافتراض أنّ الأميركيّين وقعوا في "فخّ" الأطروحات التي يقدّمونها للعالم أجمع، خصوصاً بعد "الثورات" التي انطلقت بمجملها على الطريقة الأميركيّة، باحتجاجات شعبية سلمية، قبل أن تنحرف عن مسارها، لكنّها قد تكون أكثر من "مصيبة" حين تصدر عن شعبٍ لم يعد قادراً على التنفّس بسبب طبقةٍ سياسيّةٍ فاسدةٍ ومرتهَنةٍ للخارج بالكامل، ولا يزال مسلوب الإرادة، "يتوسّل" ممثليه تشكيل حكومةٍ أصيلةٍ تنظر لحاله، بعدما أصبح على وشك الدخول في "جهنم".
ولعلّه من المجدي أن يتذكّر اللبنانيون أنّ المشهد الأميركيّ الداعي لـ "الشماتة"، جاء على خلفيّة انتخاباتٍ رئاسيّةٍ، لم يجرّبوا هم "طعْمها" في يومٍ من الأيام، بعدما أعطوا "الوكالة" لمن يمثّلونهم في البرلمان، بموجب قوانين انتخابية بالية وغير عادلة، ولا تحصل أصلاً إلا بموجب اتفاقٍ مُسبَق على اسم الفائز، بل إنّ الانتخابات الرئاسية الأخيرة تأجّلت لأكثر من سنتين، بسبب عدم الاتفاق على هوية الرئيس، في مشهدٍ لم يتوانَ البعض عن وصفه بـ"أبهى حلل الديمقراطية"، طبعاً بنسختها اللبنانية "المزيَّفة".
ترفيه عن النفس؟
قد يكون اللبنانيون بحاجة لبعض الترفيه عن النفس، بالنظر إلى كمّ الكوارث والأزمات التي يتخبّطون بها منذ أشهر، وقد تكون أحداث الشغب التي شهدها مبنى الكونغرس وفّرت لهم "بيئة خصبة" لذلك، فنشطوا على وسائل التواصل، وبين بعضهم البعض ساخرين وضاحكين.
وقد تكون بعض الطرائف التي أطلقوها ظريفة ومُضحكة فعلاً، كأن يتمّ الحديث عن "شبّيحة" دونالد ترامب، أو إسقاط بعض الشعارات اللبنانية في صلب احتجاجات العاصمة الأميركيّة، من نوع "شيعة شيعة شيعة" وغيرها.
إلا أنّ كلّ ذلك لا ينبغي أن يجعل أحداً يصرف النظر عن حقيقة أنّ "داء" الديمقراطية في بلادنا لا يشبه أيّ داء، وأنّ "الشماتة" بمن احتجّوا لأنّهم يمتلكون أساساً أدواتٍ ديمقراطية حقيقيّة لا يمكن أن تكون "الدواء" لمشاكلنا.
يمكن للبنانيين أن يشمتوا، باستغلال فرصةٍ لا تتكرّر كثيراً، لـ "يفشّوا خلقهم" في وجه "أجندةٍ" لم تكن يوماً "بريئة" إزاءهم، لكن لا يمكنهم أن ينسوا أنّهم أولاً وأخيراً من ربطوا مصيرهم بهذه الدولة وتلك، ومن يعجزون عن إنجاز شيءٍ من دون مباركة الأميركيّ وغيره!.