طبقة الفساد اللبناني محظوظة. فبعدما أَفرغت خزينة الدولة من آخر دولار، وتعذّر عليها أن تتغذّى مجدداً بـ»تسوُّل» المساعدات، لأنّ المقابل هو الإصلاح، جاءتها «كورونا» هدية غير منتظرة. وعلى الفور، باشرت في استثمارها، وهي مستمرة بنجاحٍ منقطع النظير!
ليس بسيطاً، بالمعنى الأخلاقي، الوطني أو الإنساني، أن يصل لبنان اليوم إلى أكثر من 1500 وفاة ومئات آلاف المصابين بـ»كورونا»، بين مسجّلين رسمياً وغير مسجلين بعد أشهرٍ عدة استقرّت فيها الأعداد عند حدودها الدنيا.
في السلطة مَن يقول: في أكثر دول العالم تطوّراً، كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وسويسرا، نَمَت أعداد المصابين والوفيات أضعافاً مضاعفة. والنموذج الإيطالي معروف. فلماذا نجلد أنفسنا ونعتبر أن التعاطي مع الملف في لبنان ينطوي على جريمة أو مؤامرة؟
ليس دقيقاً هذا الكلام. فهناك وقائع ومؤشرات تثبت أن تفاقم الوضع لم يكن وليد الفشل في السيطرة، بل نتيجة المصالح بالدرجة الأولى.
عالمياً، هناك 3 مقاربات اعتمدتها الحكومات تجاه «كورونا»:
1 - المقاربة التي اعتمدت التراخي نسبياً لمصلحة إبقاء الاقتصاد نَشِطاً. وهذا هو النموذج الأميركي مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
2 - المقاربة المتشدّدة التي تعتبر أن القضاء على «كورونا» سريعاً من شأنه أن يريح الاقتصاد لاحقاً، ويوفّر له الديمومة. وهذا هو النموذج الصيني.
3 - المقاربة المافيوية التي تعتمدها «الدول الفاشلة»، حيث لا يُطبَّق لا النهج الرأسمالي ولا النهج الشيوعي، بل نهج الفساد الذي تقوده طبقة النافذين المُمسكين في آن معاً بالمال والسلطة، في شكل مباشر أو غير مباشر. وهذا هو النهج السائد في لبنان.
في الأساس، هذا الفساد قتل الاقتصاد. فالأموال تبخرت، والليرة تهاوت، والحركة التجارية والسياحية مشلولة، والصناعة تنوح لولا تحسن اضطراري في إنتاج سلع لم يعد اللبناني قادراً على استيرادها بالدولار، ومعدلات الفقر والجوع ترتفع.
إذاً، من السهل تكييف هذا الـ»شبه اقتصاد» مع تدابير «كورونا». والدليل أن عمليات الإقفال الأولى، في الربيع الفائت، أعطت نتائج ممتازة. لكن منظومة المال والنفوذ يبدو أنها وجدت استثماراً رابحاً في «كورونا»، بعدما تراجعت استثماراتها الأخرى، غير المشروعة، في الدولة المنهوبة. ويرجّح خبراء أن تكون هذه المنظومة قد قرّرت، عن سابق قصدٍ وتصميم، إطلاق العنان للجائحة، خدمةً لمصالحها، مالية كانت أو سياسية.
ولذلك، هي لم تحرّك ساكناً عندما بدأت ترتفع بقوة أعداد المصابين. ويعرف أيّ كان أنها كانت ستنتقل من بضع عشرات يومياً إلى المئات ثم الآلاف. وجرت مسرحية سَمِجة حول الصلاحيات بين الوزراء ولجنة «كورونا». وقدَّم البعض على المستوى الشخصي نماذج رديئة عندما ظهر في وضعيات لا تراعي التدابير، وسط الحشود، ما أوحى لكثيرين أنّ «كورونا» هي فعلاً «كذبة».
ويكشف مصدر مطّلع أنّ تفاقم عدد الإصابات أنعَشَ التجارة غير المشروعة لمواد تضاعفت الحاجة إليها مئات المرّات، وأصبحت مواد احتكار أو ابتزاز. ويجري التهافت على عشرات آلاف الـpcr يومياً، وعلى ماكينات فحص الأوكسيجين وضَخّه وماكينات التنفس الاصطناعي، عدا عن الأدوية والمعقمات والمكملات الغذائية. أي انّ «سوق كورونا» صارت استثماراً ضخماً جداً.
وفي موازاة عمليات تهريب الأدوية، وهي دائمة في لبنان، يتحدث العارفون عن عمليات متاجرة غير مشروعة وتهريب لأدوية «كورونا» وأجهزة الأوكسيجين والمواد الطبية الأخرى المزوّرة أو المغشوشة أو غير المستوفية المواصفات المطلوبة.
ويقدِّر أرباب القطاع حجم السوق غير المشروعة لهذه المواد في لبنان بمئات ملايين الدولارات. لكنهم يجهلون مَن هم القيّمون عليها، ويعتقدون أن شبكات عالمية ومحلية تترابط في هذا الشأن. وسبق للأجهزة الدولية المعنية بالتهريب وتبييض الأموال أن رصدت هذه الشبكات في مناطق مختلفة من العالم.
ويخشى الخبراء أن تكون منظومة السلطة قد أتاحت الفرصة للمافيا، من خلال فشلها في إدارة الأزمة، عن سوء تقدير أو عن سوء نيّة.
فوق كل ذلك، هناك عامل آخر. فكثيرون يتحدثون عن تسييس «كورونا» كواحدةٍ من أدوات النزاع بين المَحاور الإقليمية والدولية. ويقولون: «ليست مصادفة أن يتعثّر توقيع اتفاق مع أيٍّ من شركات اللقاحات العالمية. وهناك أسباب عدة يدور الحديث حولها، لكن العقدة الحقيقية سياسية، وهي الآتية:
إن وزارة الصحة، التي تمسك بالملف، تلتزم خيارات «حزب الله». ومن الواضح أن «الحزب» لا يرغب في اعتماد لقاح «فايزر»، انطلاقاً من موقف المرشد الأعلى للثورة في إيران الإمام علي خامنيئي، والذي حرَّم فيه استخدام لقاحات أميركية أو بريطانية أو حتى أوروبية عموماً.
إذاً، من الواضح أن إيران تحبّذ اعتماد اللقاحات الروسية أو الصينية. وبديهي أن يلتزم حلفاؤها في الشرق الأوسط هذا الخيار، وأبرزهم «حزب الله». لكنّ خصوصية الوضع اللبناني لا تسمح بتحدّي الولايات المتحدة والغرب، والذهاب شرقاً.
وهذا السيناريو في ملف لقاحات «كورونا» يشكل تكراراً للسيناريوهات في مسائل أخرى، ومنذ سنوات. فقد حاول الرئيس ميشال عون إبرام عقود مع موسكو لتسليح الجيش، لكنّ ذلك سقط بـ»الفيتو» الأميركي. وحاول الوزير جبران باسيل إمرار اتفاقات معها في ملف النفط والغاز، لكنه فشل أيضاً بـ»فيتو» مماثل.
فلبنان بات أكثر فأكثر رهينة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمساعدات الأميركية والغربية والخليجية في مجال المال والمصارف وتسليح الجيش، وليست أمامه فرصة الانقلاب شرقاً. لكن «الحزب» يحاول أن لا يمرّر الأمور بلا ثمن.
وفي الموازاة، لم تجد منظومة المال والسلطة أفضل من «كورونا» لإشغال الناس بمآزقهم، فلا ينتفضون في الشارع مطالبين بحقوقهم المنهوبة ومحاسبة الناهبين. وكذلك، جاءت «كورونا» ستاراً ممتازاً لمأزق التحقيق في كارثة المرفأ.
إذاً، تقاطعت المصالح المافيوية: مالياً وسياسياً. فهل يعني ذلك أن «كورونا» ستُترَك لتتفاقم أكثر وترتفع أعداد الضحايا إلى حدود يصعب تَصوّرها؟ قد يبدو ذلك وارداً. فمَن كان يصدِّق أنّ أعداد الإصابات التي استمرت تدور حول الـ50 يومياً لأشهر عدة، ستصل إلى 5 آلاف أو 6 آلاف؟! وما الذي يمنع من تخطّيها عتبة الـ10 آلاف قريباً؟
هذا الفلتان هو إحدى سِمات المنظومة المُمسكة بالبلد. فمثلاً، إنّ سعر الصرف يبدو كذلك بلا أفق ولا خطة إنقاذ. وفي بلد الكوارث المفتوحة، تبدو المتاجرة بكل شيء مباحة، وأرواح الناس هي السلعة الأرخص والاستثمار «الأربح».