انطلقت مرحلةٌ جديدةٌ من الإقفال القسريّ في لبنان، على خلفيّة التفشّي الهائل لفيروس كورونا، نتيجة "الخطايا" التي ارتكبتها الدولة في مقاربة الأزمة منذ بدايتها، فضلاً عن غياب الوعي لدى شريحةٍ واسعةٍ من الناس، أو استخفافٍ بحجم الوباء وخطورته.
وإذا كان كثيرون يشكون من الانعكاسات السلبيّة للإقفال، لجهة قطع الأرزاق خصوصًا لمن يوصَفون بالمياومين، فإنّ هناك في المقابل، من يصرّ على "القطع برزق" البلاد، عبر تركها "رهينة" مزاجيّةٍ من هنا، واستحقاقاتٍ لا ناقة لها ولا جمل فيها من هناك.
فعلى سبيل الدعابة، انتشرت في الساعات الماضية تساؤلات حول ما إذا كان حظر التجول سيشمل رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، فيضطر إلى تمديد "اعتكافه" شبه المُعلَن، وبالتالي تأجيل زيارته "المؤجَّلة" أصلاً إلى رئيس الجمهورية ميشال عون.
قد لا تكون الإجابة "معقّدة"، وفق ما يرى كثيرون، لا لأنّ الإقفال العام سيسري على المقرّات الرسمية وغير الرسمية، وبينها قصر بعبدا وبيت الوسط، لكن لأنّ الطريق على هذا الخطّ "مقطوعة" بالحواجز "النفسيّة"، منذ ما قبل نهاية العام الماضي...
الطريق مقطوعة
تعود الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة المكلَّف إلى القصر الجمهوري، إلى ما قبل عيد الميلاد، حين بثّ الرجل، فجأةً ومن دون مقدّمات، أجواءً تفاؤليّة غير مبرَّرة، لم تصمد أكثر من 24 ساعة، قبل أن يعلن "ترحيل" الملفّ الحكوميّ برمّته إلى ما بعد رأس السنة، وغادر البلاد في "إجازةٍ" اعتبرها كثيرون "غير مستحقّة".
تنقّل الحريري في إجازته "العائليّة" ما بين السعودية والإمارات وفرنسا، حيث بقي إلى ما بعد رأس السنة، قبل أن يعود إلى لبنان، ثمّ يحطّ فجأة في إسطنبول في زيارةٍ غير مُعلَنة، التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من دون أن يتكبّد، في خضمّ كلّ جولاته وزياراته،عناء سلوك الطريق إلى قصر بعبدا، ترجمةً بالحدّ الأدنى لوعد ما قبل الأعياد، ورغم الوساطات التي قيل إنها نشطت لترتيب لقاءٍ بين الرجليْن.
وكأنّ كلّ ما سبق لا يكفي، رغم كلّ ما يؤشّر إليه من "غيومٍ ملبَّدة" على خطّ التأليف الحكوميّ، جاءت المستجدّات السياسيّة للأسبوع الأخير لتزيد الطين بلّة، بدءاً من "الجمود" الذي أصاب مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي، رغم عمل الأخير على "تفعيلها"، إلى "التصعيد" الذي طبع المؤتمر الصحافي لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، وما خلّفه من ردود فعل ناريّة، أعادت الأمور إلى المربع الأول، وربما ما دونه.
ولعلّ التسجيل المسرَّب لرئيس الجمهورية، سواء كان ذلك عن قصد أو نتيجة خطأ تكتيكيّ، أكّد المؤكّد على هذا الصعيد، فالعلاقة بين الرئيس عون ورئيس الحكومة المكلَّف، وصلت إلى نقطة اللا عودة، طالما أنّ الأول يتّهم الثاني بـ"الكذب" صراحةً، لا مواربةً، حتى أنّ مصادر بعبدا التي حاولت "توضيح" مضمون التسريب، لم تحاول "تلطيف" الاتهام، أو "تبريره"، ولو من باب "رفع العتب"، إن جاز التعبير.
تخبّط وأكثر!
لكن، إزاء التخبّط الحاصل في السياسة، ثمّة من يطرح، مع دخول لبنان، مرحلة جديدة من الإقفال بسبب كورونا، تساؤلاتٍعن آفاق الحلّ المُنتظَر، والمسؤوليات التي ينبغي أن يتحمّلها الأفرقاء المسؤولون عن إيصال البلاد إلى الدرك الذي وصلت إليه، وما إذا كان هؤلاء يريدون أصلاً تأليف حكومة، أم أنّهم مرتاحون للمراوحة الحاصلة.
فعلى جري العادة، يتقاذف مختلف الأفرقاء كرة المسؤولية، حيث يتّهم المحسوبون على رئيس الجمهورية و"العهد" رئيس الحكومة المكلَّف بالتعطيل والعرقلة والتمييع، ويقولون إنّ كلّ ما يسعى إليه هو "شلّ العهد"، فهو لا يريد أن يؤلّف حكومة، وإن أراد، يصرّ على أن "يحتكر" التشكيل، بكلّ تفاصيله، من الحقائب إلى الأسماء والانتماءات، خلافاً للدستور الذي يؤكد على "شراكة" رئيس الجمهورية الكاملة في هذه العملية، كما يرفض الاعتذار عن أداء مهمّته، لإفساح المجال أمام غيره لتشكيل حكومة تتصدّى للمهام الثقيلة والاستثنائية المُلقاة على عاتقها، وتنطلق بورشة الإصلاح والإنقاذ.
في المقابل، يصرّ المقرّبون من الحريري على أنّ الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، الذي يرفض التجاوب مع رئيس الحكومة المكلَّف، رغم أنّ الأخير قدّم له تشكيلة كاملة متكاملة لا ينقصها سوى توقيعه على مراسيمها، ويقول هؤلاء إنّه بات واضحًا للقاصي والداني أنّ عون، ومن خلفه باسيل، لم "يهضما" حتى اليوم عودة الحريري رئيسًا للحكومة، من دون "التفاهم المُسبَق" معهما، وهما يريدان إما جرّه لتسوية جديدة شبيهة بالتسوية الرئاسية التي دفعت البلاد ثمناً باهظاً لها، وإما دفع الحريري للاعتذار، وبالتالي تسجيل "انتصار سياسي" جديد عليه، وهو ما لن يقدّمه الحريري لهما على طبقٍ من ذهب، خصوصاً أنّه يعتقد أنّ اعتذاره لن يؤدي سوى إلى تعميم "الفراغ"، في ظلّ غياب أيّ "بدائل" يمكنها أن تعبر بالبلاد إلى برّ الأمان، حتى أنّ عرّابي تجربة حكومة حسّان دياب لا يستسيغون تكرارها، باستثناء "التيار الوطني الحر".
مفاجآت وتشويق
في مرحلة الإقفال القسريّ، بدأ اللبنانيون الإعداد لـ "أجندة" أوقات الفراغ، بعدما أصبحت أدوات "الترفيه" بأيديهم محصورة، نتيجة الأزمات المتفاقمة، حتى أنّ الاشتراكات "محدودة الثمن" ببعض التطبيقات الهاتفيّة الشائعة باتت عصيّة عليهم، نتيجة الشروط التي فرضتها المصارف التي لا تزال تحتجز أموال اللبنانيّين ودولاراتهم، بحجّة أنّها "غير طازجة".
لكنّ الخسارة لن تكون كبيرة، لأنّ اللبنانيّين موعودون على ما يبدو بموسمٍ جديدٍ من "مسلسلٍ" يضاهي الإنتاجات العالميّة في الجودة والتشويق، وهو مسلسل "القطّ والفأر" الذي يتناوب على بطولته المعنيّون بتأليف الحكومة، من دون أن يبدي أحد رغبةً فعليّة بإنقاذ البلاد، رغم التذكير الدائم بأنّها على حافّة الإفلاس، وعلى وشك الدخول في "جهنّم".
وقد لا يكون الفيديو المسرَّب لرئيس الجمهورية، خلال جلسته مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، أكثر من "عيّنة" ممّا ينتظر اللبنانيين في الأيام المقبلة من مفاجآتٍ بالجملة، قد تخطر أو لا تخطر على البال، لكنّ الثابت فيها أنّ "لا حكومة ولا من يحزنون"، سوى ربما في البيانات الشعرية التي لا تقدّم ولا تؤخّر...