الخُروقات الجويّة الإسرائيليّة للسيادة اللبنانيّة ليست بجديدة، لكنّها بلغت خلال الأيام القليلة الماضية، وتيرة مُتصاعدة جدًاعلى الرغم من كلفتها العالية(1)، بحيث تخوّف الكثيرون من أن تكون عبارة عن تمهيد لمُواجهة عسكريّة جديدة بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله". فهل هذا التخوّف في مكانه؟.
بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ خطر الإحتكاك بين الإسرائيليّين ومُقاتلي "حزب الله" لم يعد مَحصورًا بالإستعدادات العسكريّة المُتبادلة على مُستوى الشريط الحُدودي، ولا مُرتبطًا بمسألة تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المُحتلّة، بعد أن صار لبنان جزءًا من ساحة مُواجهة إقليميّة كُبرى بين إيران وإسرائيل، وبعد أن تحوّلت أراضيه إلى قاعدة إطلاق صواريخ تُهدّد الأمن الإسرائيلي بالعُمق. من هنا، لم تعد الطلعات الجويّة الإسرائيليّة التي تخرق السيادة اللبنانيّة بشكل يومي، مُرتبطة بتتبّع وبمُراقبة وبتصوير التحرّكات العسكريّة لمُقاتلي "الحزب"، إن داخل المنطقة الحُدوديّة أو خارجها، وصارت مُرتبطة بالصراع الإقليمي الكبير، وتشمل بالتالي مُتابعة التحرّكات العسكريّة لمُختلف القوى المُموّلة والمُسلّحة من قبل إيران، والتي تتمّ مُراقبتها أيضًا عبر مجموعة من الأقمار الصناعيّة، ناهيك عن جواسيس وعُملاء على الأرض. وليس بسرّ أنّ إسرائيل تستخدم الأجواء اللبنانيّة لتنفيذ غارات وضربات ضُدّ أهداف على إمتداد الأراضي السُوريّة، وذلك تجنّبًا للصواريخ الدفاعيّة السُوريّة، وكذلك تقيّدًا بتفاهم ضُمني مع روسيا في هذا الصدد، خاصة وأنّ للجيش الروسي قواعد عسكريّة في سوريا.
إشارة إلى أنّ الطيران الإسرائيلي كثّف هجماته على أهداف مُختلفة في العمق السُوري، حيث نفّذ أربع غارات خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة(2)، مُستهدفًا مخازن أسلحة ومراكز عسكريّة تابعة للجيش السُوري ولجماعات مُسلّحة من جنسيّات مُختلفة تؤازره. وهذه المُواجهة المَفتوحة منذ سنوات عدّة، غير مَحصورة بسقف زمني مُحدّد، حيث تواصل إسرائيل عرقلة مساعي المحور المُناهض بقيادة إيران، لتشكيل جبهات قتاليّة مُحصّنة تُحاصر إسرائيل من العديد من الجهات. وإذا كانت إسرائيل لم تتردّد في العام 1982 في شنّ عدوان على لبنان، بهدف إزالة صواريخ "سام" السوريّة من البقاع،وللحفاظ بالتالي على تفوّقها الجويّ، إلى جانب مجموعة أخرى من الأهداف آنذاك بطبيعة الحال، فإنّها لن تألوا جُهدًا اليوم لمنع إكتمال شبكة الصواريخ الدقيقة التي تُهدّد أمنها الإستراتيجي. وإنطلاقًا من هذا الواقع، تعمل إسرائيل على أكثر من خطّ–مَدعومة من قبل حليفها الأميركي، وبغضّ النظر عن هويّة الرئيس في البيت الأبيض، لإفشال المُخطّط الإيراني. والضغُوط والعُقوبات الأميركيّة على إيران تصبّ في جزء منها في هذا الإتجاه(3)، شأنها شأن الضربات الإسرائيليّة المُتكرّرة في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنتهاكات الجويّة المُتكرّرة للسيادة اللبنانيّة، والتي تأخّرت الدبلوماسيّة اللبنانيّة كثيرًا للإعتراض عليها، والتي لا قُدرة عمليّة للجيش البناني على وقفها للأسف.
وبالنسبة إلى خطر وقوع مُواجهة عسكريّة بين الإسرائيليّين و"حزب الله" على الأراضي اللبنانيّة، وعلى الرغم من إنتهاء مرحلة الخطر التي كانت تتمثّل في أيّ هروب مُحتمل إلى الأمام من جانب الرئيس الأميركي المُنتهية ولايته دونالد ترامب، فإنّ إحتمال لجوء رئيس الوزراء الإسرئيلي بنيامين نتانياهو بدوره إلى الهروب إلى الأمام، للتخلّص من المشاكل الداخليّة التي يُواجهها ومن الفشل في نجاح حكومة إئتلاف سياسي، لا يزال قائمًا. لكن من الضروري الإشارة إلى أنّه بعد حلّ الكنيست مرّة اخرى، وتحديد نهاية آذار المُقبل موعدًا جديدًا لإنتخابات نيابيّة مُبكرة، هي الرابعة من نوعها في غُضون عامين، فإنّ نتانياهو سيحتسب بدقّة أي خطوة يقوم بها، لما لها من تأثير حاسم على نتائج الإنتخابات المُقبلة. في المُقابل، إنّ "حزب الله" يحتسب من جهته خطواته العسكريّة والأمنيّة بدقّة كبيرة أيضًا، خاصة في هذه المرحلة، بسبب غرق لبنان في مشاكل كُبرى، وبالتالي غياب قدرة الشعب اللبناني على تحمّل أيّ أعباء ومصائب جديدة، وبالتأكيد غياب القُدرة على تحمّل أيّ تبعات لأي مُواجهة عسكريّة مُحتملة، أكانت عبارة عن حرب كُبرى أو حتى مُجرّد إشتباك مَحدود على الحدود الجنوبيّة.
في الختام، لا يكاد يمرّ يوم من دون أن نسمع تهديدات إسرائيليّة، بأنّ الردّ جاهز لضرب مجموعة واسعة من الأهداف في لبنان، في حال تنفيذ "حزب الله" أيّ عمليّة في الجنوب، وهذا الأخير والقوى المَحسوبة عليه تؤكّد بدورها أنّ الصواريخ جاهزة لضرب العمق الإسرائيلي، ردّا على أي عدوان يستهدف لبنان. لكن في الحقيقة لوّ نَفّذ كلّ من الإسرائيليّين و"حزب الله" تهديداتهما المُتبادلة منذ العام 2016 حتى اليوم، لكان دُمّر لبنان وإسرائيل مرّات عدّة خلال العقد ونصف العقد الماضي!.