يتلازم حجرنا الصّحيّ الإلزاميّ والكامل مع استحضار أسئلة وجوديّة عظمى قد غفل عنها أصحابها، وما برح الأولاد يتفكّرون بها على بساطة، وما فتئ كبار رجال الفكر والفلسفة يستنبطون النّظريّات في شأنها… ولئن كان الإنسان ميّالًا، في وحدته وخلوته مع ذاته، إلى التّفكّر، والاستنباط، واستقراء الموجودات، فقد تُعرض، أمامه، قراءات كيانيّة في مسيرتها على هذه البسيطة.
إلّا أنّ ما فرضته جائحة كوفيد 19 من حجر مطبق، يزيد القلق الوجوديّ والفكريّ، أضف إلى ذلك النّفسيّ كما الصّحيّ، فيغدو العالم برمته يعايش تهافت الضّمانات الأساس؛ فإذا غابت هذه الأخيرة غاب الأمان والاستقرار، وشُلّت قدرات العقل والتّفاكر السّاعية إلى توليد الحلول النّاجعة، وتشنّجت العلاقات الواقعيّة، وحتّى الافتراضيّة، على وسائل التّواصل الاجتماعيّ المألوفة.
وتنهال علينا أسئلة وجوديّة مربكة، دفعة واحدة. ولقد وصلني أصداؤها من القريبين والبعيدين، وما يلي عيّنة منها، على سبيل المثال لا الحصر: لماذا وُجدنا؟ ما قيمة هذا الوجود؟ لماذا وضعنا الله إزاء اختبار صعب كالّذي نعيشه، من دون أن يكون لنا خيار فيه؟ ما هي قيمة الحريّة المسلوبة؟ ما هما الخير والشّرّ؟ كيف يسمح الله المحبّ بالظّلم؟ ما هو حكم الله وعقابه؟ إلى ما هنالك من أسئلة أخرى قد تكون أقلّ أشكلة، من مثل: كيف اخترت شريكي بالحياة، وما من قاسم مشترك يجمعنا؟ ألم أعد أعني له شيئًا؟ ما هو الحبّ الحقيقيّ؟ هل كلّ ما أعيشه كذبة تلامس الحقيقة؟ كيف وُزّعت خيرات هذه الأرض، من رزق، وجمال، وطول، وعرض؟ وصولًا إلى: لماذا أنا هكذا؟…
في هذا الأفق المرضيّ الافتراضيّ المقلق، الّذي يقتضي حجر غير المُصاب من أجل حمايته من العدوى، نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد أجوبة شافية في المجالات كافّة، ولا سيّما رفض اللّاوعي الكامن فينا التّصديق، أو التّفكير، أو التّسليم الجدليّ بأنّ هذا الوباء تكوين بشريّ. ونجد أنفسنا، تاليًا، أمام تقبّل وتسليم بإيمان، بأنّ الله هو مَن أرسله عقابًا للإنسان، بسب عصيانه، وانغماسه في الخطيئة والشّرّ، على الرّغم من أنّ أكثريّة رجال الدّين، وأنا واحد منهم، على اختلاف ديانتهم، يرفضون هذه النّظريّة، إلّا أنّ العامّة يفضّلون، بل يتمنّون أن تكون هذه الجائحة مرسلة من الله، ليسهل تقبّلها.
تتجلّى، هنا، ظاهرة الإيمان الباطنيّ العميق في الكيان الإنسانيّ، فيعمليّة حجْر هذه الأسئلة الوجوديّة والتّهرّب منها، من خلال التّسليم السّطحيّ للقدرة الإلهيّة. فما الإيمان على هذا النّحو، إنّما هو مرتبط بالرّجاء والمحبّة. فليكن هذا الزّمان الّذي نعيشه حجْرًا وخلوة روحيّة، وإعادة قراءة ذاتيّة،ونقديّة، وإيمانيّة بالذّات، وبالآخرين، وبالله.
فالإيمان فضيلة إلهيّة، ونعمة سماويّة سكبها الله فينا،وعلينا تنميتها وبنيانها على الصّخر،لا على الرّمال المتحرّكة، وعندها فقط نستطيع الإجابة عنأسئلتنا الوجوديّة،الّتي لا تعود، بعد ذلك، مقلقة ومحيّرة. من خلال خبرتنا الشّخصيّة النّاضجة،وبإعادة قراءة مسيرتنا وتجاربنا وسقطاتنا الماضيةنجد يدًا خفيّة لا تنفكّ تساعدنا في تخطي كلّ المشاكل، بطرائق عجائبيّة، أو في بلسمة للقلب نقيّة.
لم يأت السّيّد المسيح ليزيل الآلام، ولا الأحزان، ولا الشّقاء، ولا حتّى الظّلم والفقر والموت، إنّما جاء ليعطي كلّ إنسان معنًى خلاصيًّا ووجوديًّا، في مسيرته نحو الوجود الأكمل، والفرح الكونيّ الأكمل، الّذي هو الله.
فليشدّد بعضنا بعضًا بنعمة الإيمان الموثوق بالرّجاء ومحبّة الله، وعندها فقط نستطيع أن نفهم، بطريقة منطقيّة وموضوعيّة: لماذا أنا؟ ولماذا أنا موجود؟.