بضع ساعات تفصل عن موعد تسلّم الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن لمسؤولياته الرسمية. هو الموعد الذي طال انتظاره بالنسبة لكثير من دول العالم وخصوصاً بعض دول الشرق الاوسط. ولا شك بأنّ دونالد ترامب، الذي لم يُقرّ رسمياً بهزيمته الانتخابية، يأمل باستمرار الحقبة «الترامبية» ولو على المسرح السياسي الاميركي. لكن حادثة اقتحام مبنى الكابيتول هيل، بدّلت على ما يبدو العديد من المعطيات.
منذ انتهاء العملية الانتخابية وصولاً الى الخطأ الفادح باقتحام مبنى الكونغرس، بدأت الحلقة القريبة من ترامب بالتفكك. صحيح أنّ ترامب سيخرج من البيت الابيض وهو لا يزال يستحوذ على قاعدة شعبية تؤيّده حتى الساعة، وهي لم تنخفض سوى 10 بالمئة على افضل تقدير، الّا انّه سيواجه انقساماً حاداً داخل الحزب الجمهوري، على وقع ملفات قضائية ستُفتح بوجهه.
وخلال فترة رئاسته العاصفة والمثيرة للجدل، نجح الوافد الجديد من خارج المؤسسة السياسية الاميركية، في إعادة تشكيل الحزب الجمهوري على قياسه وحده. وهي ظاهرة لم تألفها الحياة السياسية والحزبية سابقاً في الولايات المتحدة الاميركية. وكان ترامب يفاخر بتأييد القاعدة الصلبة له شخصياً وليس للحزب الجمهوري، معتمداً على مبدأ تخويف الاميركيين البيض من ذوي الثقافة التعليمية المحدودة، من تراجع تأثيرهم بسبب التبدّلات الديموغرافية لصالح السود والمهاجرين والاقليات المتنوعة.
في واشنطن، وبعد تطهير سريع على مستوى جهاز الشرطة، جرى تحويل مبنى الكابيتول والمنطقة المحيطة به الى منطقة عسكرية. ووصلت اعداد قوات الحرس الوطني الى حدود 25 الف رجل، اضافة الى تدابير اخرى طالت الاتصالات والانترنت واغلاق 13 محطة ميترو قريبة، اضافة الى الحدائق العامة والمنتزهات.
هذه الاستعدادات تُظهر انّ السلطات الاميركية باتت تأخذ الخطورة التي تمثلها هذه الجماعات على محمل الجدّ، خصوصاً بعدما ظهر انّ بين المهاجرين، مجموعات تولّت التخطيط المسبق واستكشاف المبنى من الداخل قبل يومين، ووضع خطط منظّمة لكيفية الاقتحام والاهداف المطلوبة.
هي تدابير لم يسبق ان حصلت منذ تسلّم الرئيس ابراهام لينكولن مسؤولياته الرئاسية خلال الحرب الاهلية.
وصحيح انّ المؤسسات التي ترتكز عليها عواميد الدولة الفدرالية بدت قوية ومتماسكة وبعيدة من الصراعات السياسية والعرقية، الّا انّ مراسم الترسيم حتى ولو حصلت من دون عوائق، فلقد عطّل ترامب فعلياً فكرة الانتقال السلمي للسلطة، خصوصاً مع وجود مشرّعين اعلنوا رفضهم لنتائج الانتخابات.
في المرحلة المقبلة، احداث كثيرة ستحصل على مستوى السياسة الداخلية الاميركية، والحزب الجمهوري يتجّه الى انقسام عامودي والى ضعف سيصيبه من دون شك، في ظلّ استحالة ظهور حزب ثالث، وهو ما قد يجعل من الانتخابات النصفية بعد اقل من سنتين من الآن، مناسبة جديدة للديموقراطيين لتعزيز حضورهم داخل الكونغرس الاميركي.
وفي هذا الوقت، ستعمل ادارة بايدن على استعادة دور بلاده عالمياً من خلال ملفين: الصين وايران.
لذلك، سعت ادارة ترامب او ما تبقّى منها، الى وضع العصي في وجه مشاريع بايدن مع ايران، وكان آخرها اعلان الحوثيين تنظيماً إرهابياً. او بما معناه، محاولة قطع الطريق على اي تسوية في اليمن، وهو ما ادّى الى اعتراض من الامم المتحدة ومن رموز ديموقراطيين في الكونغرس.
ولا حاجة للاستنتاج، بأنّ فريق بايدن يقف وراء هذه الاعتراضات. ذلك انّ وزير الخارجية الاميركية في زمن رئاسة باراك اوباما، اي جون كيري، كان قد توصل على ما يبدو الى تفاهمات ولو بالعناوين العريضة مع الايرانيين، من خلال وزير خارجيتهم محمد جواد ظريف حول الملف النووي وخارطة طريق للنزاع اليمني.
لذلك مثلاً، تقدّم نواب ديموقراطيون بمشاريع قوانين تعارض بيع السعودية قنابل دقيقة التوجيه. وفي مجلس الشيوخ يستعد السيناتور الديموقراطي بوب مينينديز لترؤس لجنة العلاقات الخارجية، وهو المعروف عنه معارضته الصريحة لبيع السعودية الاسلحة الهجومية بسبب حرب اليمن.
والاستنتاج واضح هنا، وهو انّ ادارة بايدن تحضّر اوراق المساومة مع السعودية لإنجاز التسوية اليمنية. لكن الاتفاق النووي شيء، والتفاهم على مصير الصواريخ البالستية الايرانية واعادة رسم خارطة النفوذ في المنطقة شيء آخر.
وبخلاف ما يحصل بالنسبة لملف بيع الاسلحة للسعودية، فإنّ اي ردّ فعل لم يصدر عن الديموقراطيين، بعد الكشف عن تعاون اميركي - اسرائيلي حول قصف قوي لمواقع مهمة لإيران عبر حلفائها في شمال شرق سوريا. وهذا الكشف هو اجراء نادر الحصول. والواقع، انّ واشنطن توافق الرأي الاسرائيلي بأنّ الحدود الشرقية لسوريا تتحول بسرعة الى منطقة نفوذ ايرانية صافية، ما يستوجب مواجهة ذلك. لكن رغم كل شيء فهذا لا يعني تحوّلاً اميركياً - اسرائيلياً استراتيجياً في المواجهة. والواضح انّ ادارة بايدن وافقت على هذه الخطة. ويتردّد كثيراً انّ ادارة بايدن وخلال شروعها في رسم استراتيجيتها التفاوضية مع ايران، اجرت مشاورات مع اسرائيل وتفاهمت معها على العديد من العناوين.
ولذلك، فإنّ الضربات الاخيرة في البوكمال ودير الزور، والتي لم تعارضها روسيا، حملت رسائل واضحة الى ايران، مفادها انّ واشنطن وتل ابيب متفقتان ومصممتان على احباط جهود ايران في سوريا، بما في ذلك الانشطة غير النووية. الردّ الايراني لم يتأخّر، وجاء بالمستوى نفسه، مع اختيار ايران لصواريخ بالستية بعيدة المدى لإصابة هدف في المحيط الهندي على بعد حوالى 1800 كلم. وكان الجواب الايراني، أنّ ترسانة صواريخه خارج اطار التفاوض.
في الواقع، تستعد ادارة بايدن الى طرح انشاء منطقة جنوب سوريا بشكل مشابه لجنوب لبنان، اي رقابة دولية خالية من اي نشاط ايراني او حليف. لكن الأعين الاميركية كانت لحظت نشاطاً ايرانياً في ايصال صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة انتحارية الى العراق واليمن.
في المقابل، لم تعترض ادارة بايدن على قرار ترامب بإدراج وزارة الدفاع الاميركية اسرائيل في هيكل القيادة العسكرية الاميركية للشرق الاوسط، بعد ان كانت في القيادة الاميركية لأوروبا. والمعروف انّ «السينتكوم» يشرف على السياسة العسكرية الاميركية المتعلقة بالدول العربية. وهو تدبير سيفتح الطريق امام البنتاغون لإشراك اسرائيل بشكل اكبر في العمليات الاقليمية.
مع تسجيل عودة الحيوية لحركة «داعش» خصوصاً في سوريا، وهو ما يفتح باب مخاطر «تسرّب» ارهابيين الى الداخل اللبناني، الذي يعاني فقراً وانهياراً اقتصادياً وصراعاً سياسياً ومذهبياً، وهي تشكّل بيئة مثالية لنمو سريع للحركات المتطرفة.
في الواقع، فإنّ التحضيرات الجارية لإدارة بايدن تنبئ بورشة كبيرة، وانّ للشرق الاوسط اولوية على ملف الصين لسبب بسيط، وهو انتزاع اوراق الصين في الشرق الاوسط، وبالتالي قطع طريقها امام افريقيا.
وعلى ما يبدو ستعمد اسرائيل الى تجميد ملف تعاونها الاستثماري مع الصين، وستسعى واشنطن الى تفاهم مع ايران، يحاكي الحدّ من التوسع الصيني.
ففي آخر استطلاع للمؤسسة الاميركية «الباروميتر العربي»، احتلت الولايات المتحدة الاميركية مرتبة متأخّرة عن الصين في بعض البلدان العربية ومنها لبنان.
ففي تقييم دور الصين مقابل الدور الاميركي، جاءت النتائج كلها لصالح الصين وفق النسب التالية:
الاردن 35% مقابل 15%
الجزائر 60% مقابل 24%
المغرب 52% مقابل 28%
تونس 50% مقابل 21%
لبنان 43% مقابل 25%
ليبيا 34% مقابل 14%
وفي اي دولة تهدّد مصالح البلد، تقدّمت الولايات المتحدة على الصين في جميع البلدان، وحتى في لبنان، فإن 47% قالوا انّ واشنطن هي مصدر التهديد في مقابل 26% اعتبروا بكين.
وهو ما يعني انّ ورشة الشرق الاوسط بدأت تشكّل اولوية اميركية ملحّة، وهي لن تكون سهلة بكل تأكيد.