لن تكون مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض سهلة على الولايات المتحدة لا في الشكل ولا في المضمون. مشهد عسكرة واشنطن تحضيراً لتسلّم الرئيس المُنتخب جو بايدن يؤكد أن الساحة الأميركية قلقة من تداعيات محاولة طي صفحة ترامب. لا يوحي حجم الأصوات التي نالها الرئيس الأميركي بأنه سيصبح نسياً منسيّاً، خصوصاً أنّ ترامب بات مؤثراً في شريحة واسعة تتحرك في الشارع، وتفرض خوف السياسيين الجمهوريين قبل الديمقراطيين من الحالة الترامبية. مما يؤكد ان صفحته مفتوحة لن يطويها تسلم بايدن للسلطة الأعلى في الولايات المتحدة.
الأهم أن ترامب ترك إرثاً ثقيلاً ستتحمّله الإدارة العتيدة، بعدما كرّر تجربة الرئيس الأميركي السابع اندرو جاكسون في القرن ما قبل الماضي. الإثنان حاولا قطع إرتباطات واشنطن العملانية بالعالم. لا بل إنّ ترامب فرض خلافات مع أهم حلفاء وشركاء وركائز الأميركيين في قارات العالم: خلاف مع الاتحاد الأوروبي. نزاع مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي حوّل العلاقة معه من إطار عسكري إلى إطار تعاوني. خلاف مع منظمة الصحة العالمية. الإنسحاب من إتفاق باريس بشأن التغيّر المناخي. تعميق الخلاف مع الاتراك والايرانيين. انسحاب من الإتفاق النووي الذي كانت اعدّته إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما. خلاف مع الصين. سوء العلاقات مع روسيا التي تعرّضت لعقوبات إقتصادية قاسية، رغم الإتهامات لترامب بأنه تعاون سرّاً مع الروس.
كل ذاك الحِمل سيكون ثقيلاً على إدارة آتية لترمم ما خرّبه ترامب، في ظلّ أزمات صحية كورونيّة وإقتصاديّة.
من هنا يتطلّب الواقع من بايدن التفرّغ لحلول داخلية وتجنّب الإنقسام الحاد في صفوف الأميركيين. لا يمكن للدولة الأميركية العميقة التفرّج من دون إتخاذ خطوات إستيعابية غير صدامية في الولايات المتحدة، والذهاب نحو إعتماد دبلوماسية ومهادنات خارجية كبرى. يبدو خيار التفويض سياسة بايدنية واردة، خصوصاً أنّ الرئيس الأميركي الآتي سيُعيد علاقاته مع الحلفاء التقليديين لواشنطن على اسس استراتيجية تخدم مصالح الولايات المتحدة. من هنا يتردّد في لبنان أن باريس ستكون موكلة اميركياً بمتابعة أمور لبنان بشكل أكثر فعالية في المرحلة المقبلة. لكن ماذا عن سوريا والعراق؟ هل سيتأثران بنتائج التفاوض بين واشنطن وطهران؟ بالتأكيد نعم.
الإرتياح الإيراني يأتي ايضاً في سياق تنفّس "الاسلام السياسي" الصعداء، نتيجة حسن العلاقة بين بايدن و"الإخوان المسلمين" الذين يدور في فلكهم الأتراك والقطريون، أو بسبب نية الادارة الأميركية التفاوض مع طهران. واذا كان بايدن سيعيد "للاسلام السياسي" وهجه، فهو سيصطدم بوقائع مصرية وتونسية وليبية: بدأت جماعات "الإخوان" تعدّ العدة في تونس بالإنقلاب على السلطة العروبية الحالية، كما هو واضح في التظاهرات وأعمال العنف الجارية.
اذا كان التفويضُ مُمكناً في بعض الدول، فإن بايدن سيكون امام تحدّيات روسية وصينية، خصوصاً ان اعادة الدولة العميقة لقواعد العولمة يتطلّب منها مواجهة التمدد الروسي والصيني العابر للقارات. ومن هنا فإن السياسة الخارجية الأميركية ستدور حول تلك التحديات في زمن أميركي وعالمي صعب.