من غير إطالة والعودة الى مسار إجراءات تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، نكتفي بالتذكير بأنّ لبنان في تداوله لهذا الملف ارتكب جملة أخطاء عرّضت حقوقه للخطر والضياع، وكان الخطأ الأوّل في العام 2007 عندما أرسل وفداً ناقص الأهلية والمؤهّلات القانونية والمهنية الى قبرص للتفاوض على الحدود الغربية الجنوبية للمنطقة الاقتصادية تلك. وكان خطأ يومها في وضع النقطة (1)، ولكن لبنان وبسبب أو آخر لم يوقع الاتفاق النهائي مع قبرص ما جعل الحقّ قابلاً للتصحيح بالتراجع عن الخطأ، فلبنان لم يبرم الاتفاق هذا، ولم يجعل لاتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية وضعاً قانونياً ملزماً له خاصة أنّ رئيس الجمهورية لم يوقع ومجلس الوزراء لم يقرّ، ومجلس النواب لم يأخذ علماً ولم يصدّق وبقيت المسألة في إطار مشروع اتفاق لم يسلك مساره القانوني.
وبعد جمود سنتين، حرك الملف ووضع بعهدة قيادة الجيش بقرار من رئيس الجمهورية، وهنا رُسم خط جديد لحدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية الجنوبي يعدّل الخط السابق وينقل نقطة الزاوية الجنوبية الغربية للمستطيل من النقطة 1 الى النقطة 23 ويعطي لبنان مساحة 863 كلم 2 زيادة عما كانت الاتفاقية مع قبرص تعطيه. وهنا ظنّ لبنان أنه صحّح الخطأ المرتكب من قبل وفد فؤاد السنيورة الى قبرص واستعاد مساحة مهمة للبنان في منطقته الاقتصادية الخالصة، وحتى يثبت العمل دولياً سارع الى توقيع مرسوم أرسله الى الأمانة العامة للأمم المتحدة يعلمها بها بحدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية التي رسمها وفقاً لاتفاقية قانون البحار للعام 1982 التي انضمّ إليها لبنان في العام 1994.
وهنا وللوهلة الأولى ظنّ المتابعون للقضية أنّ في فعل الحكومة اللبنانية وإيداعها المرسوم 6433/2011 الأمم المتحدة صيانة لحقوق لبنان ودفاعاً عن ثرواته وحدوده وتصحيحاً لخطأ عرضها للخطر، ولكن في الحقيقة انطوى هذا المرسوم أو واجه أمرين خطيرين: الأول إقليمي دولي والثاني حقوقي داخلي.
ففي الأول امتنعت «إسرائيل» عن الإقرار بالحقوق اللبنانية المحددة بالمرسوم المودع لدى الأمم المتحدة واعتبرت انّ لبنان بتوقيعه مشروع الاتفاقية مع قبرص يكون قد أقرّ عملياً بمدى الحق الذي يدّعيه، وهي لا تتقبّل فكرة أي تعديل وتتمسك بالنقطة 1 الظاهرة في الخريطة المرفقة بمشروع اتفاقية لبنان/ قبرص.
اما في الثاني وهنا الوضع أشدّ وأدهى فيتعلق بالمرسوم ذاته والخريطة المرفقة به، حيث إنّ دراسة الملف تؤدّي الى تسجيل الملاحظات الخطيرة التالية:
أولاً: رسم لبنان خط حدود منطقته الجنوبيّة من النقطة 18 قرب الشاطئ الى النقطة 23 واختار النقطة 18 بعيدة عن الشاطئ لمسافة تتعدى عشرات الأمتار (28 م) من غير أيّ سند او مرجع او مرتكز قانوني ما يجعل قانون الخط (18-23) خطاً واهناً لا يرتكز على حجة قانونية تمكن من الدفاع عنه.
ثانياً: أرفق بالمرسوم خريطة يظهر عليها اسم «إسرائيل» بدل فلسطين في اعتراف واضح وبوثيقة رسمية لبنانية موقعة من رئيس الدولة بكيان العدو خلافاً للموقف الرسمي اللبناني.
ثالثاً: لم تظهر الخريطة المرفقة بالمرسوم 6433 /2011 حدود لبنان الدولية مع فلسطين المحتلة، وفي ذلك مماشاة للعدو الإسرائيلي الذي يريد التنصل من اتفاقية بوليه نيوكمب.
أما من حي الشكل فقد غاب عن المرسوم توقيع الوزراء/ الوزير المختص واكتُفي بتوقيع وزير الأشغال بينما وفقاً للقانون اللبناني فإنه يجب الحصول على تواقيع وزراء المال والدفاع والخارجية، وبغياب هذه التواقيع يكون في المرسوم عيب جوهري يقتضي التصحيح إما بالأبطال او بالإبدال.
وعلى ضوء ذلك بات ملحاً إلغاء المرسوم 6433 واعتباره كأنه لم يكن لأنّ التمسك به يعني ببساطة اعترافاً بـ «إسرائيل» وتنازلاً عن حدود لبنان الدولية مع فلسطين وإطاحة باتفاقية «بوليه نيوكمب» وباتفاقية الهدنة. وهذا ما فعله وللأسف اتفاق الإطار الذي يبقى من غير قيمة قانونية ملزمة وفقاً للنظام القانوني اللبناني حيث لم تصدّقه أيّة جهة رسمية مخوّلة او ذات صلاحية دستورية، ثم انّ موقف العماد عون صحّح او سدّ ما جاء فيه من ثغرات.
ومن جهة أخرى فإننا نذكر بأنّ لبنان وقبل إعداد المرسوم أعلاه، كان قد طلب من مكتب بريطاني مختص رأياً فنياً تقنياً قانونياً حول حدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية الجنوبية الخالصة، واستجاب المكتب للطلب اللبناني وأودع نتيجة دراسته الاستشارية العلمية والقانونية والفنية الحكومة اللبنانية في آب 2011، وتظهر الدراسة انّ للبنان حق بمساحة 2290 كلم 2 زيادة على المساحة التي حدّدت له بمشروع اتفاقية مع قبرص، ولكن الغريب بالأمر انّ الدراسة البريطانية أخفيت في الأدراج، وتمسّك المسؤول اللبناني بما كان أعدّه من مرفقات ومضمون في المرسوم 6433 /2011 وأرسله إلى الأمم المتحدة بعد شهرين من تلقي الدراسة البريطانية، باعتباره وثيقة رسمية لبنانية تحدّد حدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية.
مع هذا التباين في الموقفين اللبناني و»الإسرائيلي» تدخل أو أدخل الأميركيون لفضّ النزاع، على أساس انّ سقف الطلب اللبناني هو ما حدّد في المرسوم 6433 (أيّ المطالبة بـ 860 كلم 2) وسقف الطلب الإسرائيلي هو الخط B1-1 وانّ الخلاف واقع على 860 كلم2، وبعد طويل تفاوض غير مباشر توصل فريدريك هوف الى رسم خط اقترحه لفصل النزاع بحيث يعطي لبنان 55% من المنطقة المتنازع عليها ولم يستطع هوف أن يفرض اقتراحه على الطرفين فتجمّدت المفاوضات وأوقف هوف حركته المكوكيّة بين الطرفين.
في هذه الأثناء عاد لبنان وتحديداً قيادة الجيش لمراجعة الملف من أساسه واستعانت القيادة بأعرق وأهمّ الخبراء ومكاتب الدراسات الأوروبية وتوصّلت الى نتائج صادمة، حيث إنها وقفت على حقيقة خطر الأخذ بمشروع الاتفاق مع قبرص/ ووهن وخطورة الأخذ بما جاء في المرسوم 6433 /2011 الذي لا يمكن الدفاع عنه لأنه لا يستند الى أيّ حقيقة او مرجعية قانونية وتوصلت بنتيجة الدراسة الى رسم الخط النهائي العلمي والقانوني لحدود المنطقة الاقتصادية بشكل يأخذ بالاعتبار اتفاقية «بولية نيوكمب» واتفاقية الهدنة التي منهما تؤخذ نقطة البرّ التي تنطلق منها الحدود البرية شرقاً والحدود البحرية غرباً، كما وقانون البحار للعام 1982 الذي يحدّد قواعد وأسس رسم حدود المنطقة الاقتصادية البحرية، ورسمت بنتيجة ذلك خطاً جديداً هو ما يجب أن يكون حدود المنطقة اللبنانية جنوباً. وللمفارقة تبيّن أنّ هذا الخط هو متطابق بنسبة 99% مع الخط الموصى به من قبل المكتب الاستشاري البريطاني ذاك الخط الغارق في الأدراج الرسمية اللبنانية منذ آب 2011.
وعلى ضوء هذه الحقائق القانونية والوقائع الميدانية العملية بات على لبنان أن يسارع الى إصدار مرسوم يصحّح به خطأ الماضي ويصون مصالحه وثرواته، عليه أن يسارع بالفعل وعلى مرحلتين الأولى إلغاء المرسوم 6433 /2011 وإبلاغ الأمم المتحدة بالإلغاء وسحبه منها بتوقيع من سبق ووقع، والمرحلة الثانية إصدار مرسوم نهائيّ يتضمّن الحق اللبناني كاملا ويحمل تواقيع الوزراء المختصين.
أما القول بأننا لسنا بحاجة الى هذا الأمر فيعني ببساطة التمسك بالمرسوم 6433 الواهن والخطر وغير القابل للدفاع عنه ما سيؤدي الى التفريط الأكيد بالحقوق اللبنانية، فحجة لبنان بالمطالبة بحقه بـ 2290 كلم 2 ضعيفة بوجود المرسوم 6433 لأنّ الأخير يفسّر بأنه إقرار لبنان بمدى الحق اللبناني والإقرار سيّد الأحكام، فإذا لم يصحّح العيب هنا ضاع الحق اللبناني وانّ كلّ من يؤخر او يعارض او يعرقل سحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة وإرسال البديل الصحيح يكون عن قصد أو غير قصد يضعف الموقف اللبناني التفاوضي ويفرط بالحق اللبناني بثرواته البحرية إقراراً بالاعتراف بـ «إسرائيل» وتنازلاً عن اتفاقية «بوليه نيوكمب» والحدود الدولية التي ترسمها كما تظهر الخريطة المرفقة به.