تجري اليوم، 20 كانون الثاني 2021، عملية انتقال السلطة في الولايات المتحدة إلى الرئيس الفائز في الانتخابات جو بايدن، في ظلّ حراب الجيش الأميركي، الذي حول، انتشاره الكثيف، العاصمة الأميركية واشنطن إلى ثكنة عسكرية، في قلبها البيت الأبيض والكونغرس، رمزاً السلطة بشقيها التنفيذي والتشريعي...
ماذا يعني ذلك وما هي دلالاته؟
أولا، للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية الأميركية وتحقيق الاستقرار وسيادة النظام الديمقراطي في عملية تداول السلطة عبر الانتخابات، يحصل مثل هذا الاهتزاز في العملية الديمقراطية... والذي تجسّد في اقتحام الكونغرس من قبل أنصار الرئيس الخاسر في الانتخابات دونالد ترامب، في محاولة يائسة وفاشلة لقلب نتيجة الانتخابات ومنع تسليم السلطة لـ بايدن، بدعوة انّ عمليات تزوير شابت الانتخابات، سرقت الفوز من ترامب.. الذي امتنع عن حضور حفل تسليم السلطة للرئيس الفائز، في تأكيد على رفضه الاعتراف بفوزه، وبشرعيته، وهذه سابقة تحصل للمرة الأولى في الولايات المتحدة..
ثانياً، من الواضح أنّ نشر أكثر من 25 ألف جندي من الحرس الوطني لتأمين حفل تنصيب بايدن، يكشف حجم القلق من إمكانية حصول عمليات عنف من قبل جماعات متطرفة مسلحة مؤيدة لـ ترامب، ما يؤشر إلى سيادة شعور لدى المسؤولين العسكريين والأمنيين بالقلق من حصول اضطرابات تعطل عملية تسليم السلطة، وتؤدّي إلى انتشار الفوضى وإقدام الجماعات اليمينية المتطرفة على اقتحام واحتلال المباني والمؤسسات الحكومية والبرلمانية في العديد من الولايات وبالتالي دخول أميركا في مسار من الحرب الأهلية...
ثالثاً، هذا المشهد يكشف إلى أيّ مدى تشهد الإمبراطورية الأميركية حالة من الانقسام والتصدّع في الداخل تهدّد وجودها بالتفكّك والدخول في صراعات داخلية تودي بوحدتها، دولة ومجتمعاً.
رابعاً، يظهر انتقال السلطة وسط احتدام الصراعات السياسية والعرقية، انكشاف أكذوبة الحديث عن النظام الأميركي كنموذج متقدّم في الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين، يجب أن يُحتذى.. إنّ ما يجري يؤكد انّ هذا النظام إنما كان مطلياً بمساحيق التجميل الخادعة عن صورة الحلم الأميركي، الذي روّج له على مدى العقود الماضية، لا سيما بعد خروج أميركا من الحرب العالمية أقوى دولة اقتصادية وعسكرية، تتربّع على عرش العالم، وتحتكر المعرفة والتقنية.. لكن انتهاء عقود الازدهار الاقتصادي والرخاء والرفاه الذي نعمت به أميركا والطبقة الوسطى فيها، كشف زيف هذا الحلم، وأذاب مساحيق التجميل، وأظهر للرأي العام الطبيعة الوحشية للنظام الرأسمالي الأميركي الإمبريالي، القائم على التمييز العنصري، وتحكّم الأثرياء بالثروة، مقابل الحرمان والفقر الذي يرزح تحته عشرات الملايين من الأميركيين...
خامساً، يكشف تفجّر أزمة النظام الأميركي، انّ الأزمة التي تشهدها الإمبراطورية إنما هي أزمة بنيوية واجهت جميع الإمبراطوريات عبر التاريخ، والتي أدّت إلى اضمحلالها وتلاشيها أو تحجيم قوتها وحضورها ودورها العالمي، كما هو حال الإمبراطورية البريطانية اليوم... وهذه الأزمة مردّها غرق أميركا في الأزمات الاقتصادية والمالية، وعجزها عن حلّ هذه الأزمات عبر شنّ الحروب الاستعمارية الفاشلة التي عمّقت أزماتها بدلاً من حلها.. حيث تضاعف الدين العام إلى ما يفوق الـ 23 تريليون دولار، وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي، مما أدّى تراجع المداخيل والعائدات المالية، في مقابل استمرار الإنفاق الهائل للحفاظ على نفوذ الإمبراطورية..
انطلاقاً مما تقدّم فإنّ ما هو متوقع ان يستمرّ الصراع ويحتدم بعد انتهاء حفل النصيب اليوم.. وهذا الصراع يتغذّى من الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والانقسام السياسي والشعبي، واستناد ترامب إلى تأييد كتلة شعبية يمينية متطرفة ستقف معه في مواجهة إصرار الحزب الديمقراطي، الذي بات مسيطراً في مجلسي النواب والشيوخ، على محاكمة ترامب بتهم التحريض على التمرّد واقتحام الكونغرس وإساءة استخدام السلطة والفساد.. وهو الأمر الذي سيؤدّي إلى زيادة الانقسام داخل الحزب الجمهوري بين رافض لمحاكمة ترامب، وبين مؤيد لها...
هذا يعني انّ إدارة بايدن ستكون من اليوم الأول لتسلمها السلطة في مواجهة تحديات كبيرة داخلياً، الى جانب تحدّي السعي الى ترميم الدور الأميركي العالمي وإصلاح الأضرار التي أصابته، وتسبّبت بها سياسات ترامب...