عندما دخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأميركية رفع شعار “أميركا أولاً” واليوم يغادرها مع واقع “امبراطورية أميركا تنهار” ولا يمكن لمراقب أن يتجاهل هذه الحقيقة الساطعة التي جعلت الهمّ الأول للرئيس الجديد جو بايدن، هو استعادة الوحدة الوطنية الأميركية وترميم الولاء الوطني الذي بدا مزعزعاً قيد الشكّ والتخوّف من عناصر الوحدات العسكريّة التي أنيطت بها حماية حفل مراسم التنصيب، ما تسبّب باستبعاد أكثر من 12 شخصاً عن المهمة في رسالة واضحة تشير إلى الخطر الذي بات الانقسام الداخلي وتشتت الولاء يشكله على تماسك القوى العسكرية وقوتها، ونستطيع القول بأنّ كلّ ما جرى في مراسم التنصيب او رافق التحضيرات له منذ مطلع العام الحالي يقطع بحقيقة ساطعة هي أنّ أميركا اليوم ليست أميركا الأسطورة بالأمس، وانّ هذه الدولة التي أرعبت العالم وملكت جلّ أمره باتت تعيش هي الرعب في داخلها ومن هنا يكون نجح ترامب في مقولته “أميركا أولاً”، حيث باتت أميركا في الصفوف الأولى لمن يخشون على مستقبلهم ووحدة بلادهم.
أما النقطة الثانية التي تفرض التوقف عندها فهي قول ترامب أو مباهاته بأنه “لم يخض حرباً واحدة في الخارج”، ما يعني اعترافاً واضحاً بأنّ حروب أميركا كانت عبئاً عليها، وهو قول صحيح لكنه ناقص، فهي كانت عبئاً على من دمّرت بلادهم بيد الجيش الأميركي الذي ارتكب جرائم بحقوق الشعوب بدءاً من أفغانستان والعراق وصولاً إلى لبيبا، وتلك التي دمّرها العدوان الخارجي او الإرهاب بدعم وتوجيه أميركي كما هي حال اليمن وسورية. فأميركا التي تصدّت لقيادة العالم في العقود الثلاثة الأخيرة اعتمدت التدمير والقتل وسيلة لبسط سيطرتها، لكن ترامب في تبجّحه هذا لم يقل كلّ الحقيقة، حيث أخفى أمرين الأول: لماذا لم يخُض الحروب؟ والثاني: هل هو بالفعل لم يخُض حروباً؟
ففي السؤال الأول نستوحي الإجابة من مصير الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق من جهة، والضربة الصاروخية الإيرانية للقاعدة الأميركية في “عين الأسد” في العراق من جهة أخرى. ففي الأولى أثبتت مقاومة الشعوب قدرة فائقة على إذلال الاحتلال وطرده، وتأكد أنّ الجيوش التي تواجه حرب الجيل الرابع تكون عرضة للخسارة والهزيمة، أما في الثانية فقد حملت الصواريخ الإيرانيّة رسالة قاسية ساطعة الحروف بأنّ “الهيبة الأميركية” لم تعد في المستوى الذي يخيف الدول المصمّمة على استقلالها وسيادتها، وانّ في العالم كيانات ودولاً قرّرت ان تمنع أميركا من العدوان عليها، وإذا جمعنا العنصرين معاً لوصلنا الى نتيجة هامة مفادها “ليس التعفف والإنسانية واحترام القانون منع ترامب من شنّ الحروب، بل الخوف من النتائج وتهشّم الهيبة التي لم تعد في المستوى الذي يمنع الدول والشعوب من الدفاع عن نفسها.
بيد أنه ولإكمال صورة الحقيقة رداً على تبجّح ترامب بـ “تعففه عن الحروب”، نقول إنّ الأخير لم يوفر فرصة مجال او نوعاً من أنواع العدوان الممكن تنفيذه على الشعوب والدول من دون خسائر أكيدة إلا واستغله أو مارَسَه، ويكفي ان نذكر بأنّ هذا الرئيس احتلّ المرتبة الأولى بين رؤساء الولايات المتحدة الذين شنّوا الحروب الاقتصادية ومارسوا الإرهاب الاقتصادي والخنق المالي الوحشي، وتسبّبوا بأوسع حالات التجويع والقتل بالحرمان من الغذاء والدواء، ما يعني أنّ حروب ترامب لم تكن نارية تستهدف هدفاً أو موقعاً أو قاعدة عسكرية (رغم أنه فعل ذلك بشكل محدود في سورية) بل كانت أخطر بذلك بكثير وكانت قتلا بالتجويع وكانت قتلاً متعمّداً بمنع الدواء، أيّ أنها كانت إبادة جماعية تشكل بذاتها جريمة ضدّ الإنسانية ارتكبت بحق الشعب الإيراني والسوري والكوري واليمني والكوبي والفنزويلي غيرهم وغيرهم بشكل مباشر/ وبحق الشعب اللبناني والعراقي والفلسطيني بشكل غير مباشر، واستحقّ ترامب بحق وصف أو لقب “مجرم حرب” ضدّ الإنسانية.
والآن… وها قد خرج ترامب من البيت الأبيض تاركاً تلك التركة مرفقة بالصورة المقيتة في أعين العالم، لكن، وبشكل موضوعي، محتفظاً بكمّ لا يُستهان به من التأييد العنصري الداخلي وتحلق غالبية بيضاء حوله، تغريه بأن يشكل حزباً جديداً ينهي عهد الثنائية الحزبيّة في أميركا، ويكون أيضاً وسيلة فاعلة لإنهاء صورة أميركا الداخليّة النمطية التي استمرّت خلال القرن الماضي. ولأنّ هذا التهديد او الخطر ماثل في الأذهان، رأينا كيف أنّ بايدن ركز في خطاب القسم أثناء التنصيب على مسألة استعادة الوحدة الوطنية، وأكد وكرّر أنه سيكون رئيساً لكلّ الأميركيين وأنه يعمل على وحدة أميركا وتماسكها، ثم يغادر المنصة متوجهاً الى البيت الأبيض ويدخل المكتب البيضاوي (مكتب الرئيس) ليوقع على قرارات تنقض قرارات ترامب فوراً في مواضيع داخلية ودولية كبرى، في عملية تذكرنا بالصورة التي تتواتر في دول العالم الثالث وسلوك السلطة بعد الانقلاب العسكري، حيث تسارع السلطة الجديدة الى إلغاء قرارات السلطة السابقة في الأيام الأولى لاستتباب الحكم لها، في سلوك يعاكس مقولة “الحكم استمرار” والمؤسسات تتابع فعلها رغم تغيّر مَن يتولى أمرها.
إنّ الموقف اللفظي لبايدن معطوفاً على سلوكه العملي يقودنا الى استنتاج لا لبس به، ويمكّننا من وصف عهد بايدن او مهمة بايدن في الرئاسة هي “مهمة ترميم وإصلاح” ما أفسده ترامب، وهي مهمة تتطلب الوقت والجهد الكبيرين من دون أن تكون مضمونة النتائج، ما يعني، وهنا بيت القصيد الذي نريد الإضاءة عليه، أنّ بايدن سيخصّص جلّ جهده للداخل. وهذا ما يجب أن يعرفه الخارج لمعرفة السبيل والسلوك الأسلم لدولنا وشعوبنا في التعامل مع أميركا – بايدن، أو “أميركا قيد الترميم والمعالجة“.
يجب علينا أن نعرف بأنّ الهمّ الأميركي الداخلي يتقدّم عند بايدن على أيّ همّ آخر، وانّ صورة أميركا الخارجية لا يمكن أن تبنى على صورة داخلية محطمة او مزعزعة. وبالتالي يكون على المستهدَف بالعدوان الأميركي ان يدرك حقيقة الوهن الذي باتت عليه هذه الدولة، ويتصرف على هذا الأساس. ونحن نرى أن أوّل من فهم هذه الحقيقة هي إيران التي حدّدت وقبل أيام من تولّي بايدن للسلطة قواعد التصرف مع أميركا.
فأميركا – بايدن وفي ظلّ ما تقدّم من وقائع وحقائق ستكون مضطرة او ستلجأ في تعاملها مع الخارج إلى سياسة تقوم على ما يلي:
1 ـ عدم التخلّي المفاجئ والسريع عن مواقعها في الخارج أيّ كانت هذه المواقع حتى لا توحي بالضعف وتغري بالتمرّد عليها، وفي المقابل فإنها لن تجازف بتوسيع مساحة تلك المواقع وتعميقها، فالتراجع هزيمة مبكرة والتوسيع أعباء خطرة من غير طائل.
2 ـ التحوّل من استراتيجية القوة الغبية الوقحة التي اعتمدها ترامب وتسبّب لنفسه ولأميركا بشيء من العزلة الدوليّة رغم الحصول على مئات المليارات من الدولارات من العرب، الى استراتيجية القوة الناعمة الذكية التي تمنع تسارع الانهيار الخارجي. وتوفر الخروج الآمن من وحول هذا المسرح او ذاك.
3 ـ تصحيح القدر الممكن مما خرّبه ترامب في العلاقات الدولية من دون التسبّب بمزيد من الإساءة الى الصورة الأميركية.
4 ـ عدم التراجع عن أيّ موقف أو قرار مهما كانت طبيعته من تلك التي تعني “إسرائيل” أو تؤمّن مصالح لها، من دون استكمال تنفيذ خطط لا يرى بايدن جدواها او خطورتها مثل صفقة القرن او المستعمرات في الضفة الغربية.
وبهذه السياسة والاستراتيجية الأميركية الجديدة التي نرى أنها لن تتضمّن حروباً وفتح جبهات جديدة أو تعميق القتال في الجبهات القائمة، (ومع توقع استمرار سياسة العقوبات بوتيرة أخف كما نعتقد) يكون على المستهدفين بالعداء الأميركي التشبّث بحقوقهم أكثر والامتناع عن أيّ تنازل يمسّ جوهرياً تلك الحقوق من جهة، ومن جهة أخرى عدم المراهنة على المساعدة الأميركية السريعة التي تحلّ مشاكلهم وتخبّطهم الداخلي. وهنا نتوجّه الى لبنان لنقول للمسؤولين فيه عليكم اغتنام فرصة زوال بومبيو وسقوط خطته والانطلاق الى فعل إنقاذي سريع وبالطاقات الداخلية، فعل ينقذ الوضع ويعوّم الدولة والوطن… فأميركا ستكون مشغولة عنكم فلا تنتظروها.