مع تسلّم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مقاليد السلطة في واشنطن ومصادقة الكونغرس على أعضاء فريق إدارته في الخارجية والبنتاغون والاستخبارات ومجلس الأمن القومي إلخ… والذي سيتولى تنفيذ الاستراتيجية والسياسات الأميركية الخارجية، طرح السؤال الملحّ، عما إذا كان سيكون هناك تبدّل في السياسة الأميركية المتبعة في سورية، تعيد النظر في السياسات التي اتبعت في عهدي الرئيسين باراك أوباما ومن بعده دونالد ترامب، أم أنّ هذه السياسات سوف تستمرّ على حالها، إنْ لناحية الإبقاء على وجود قوات الاحتلال الأميركية في شرق الفرات وفي منطقة التنف، أو لناحية مواصلة دعم قوات «قسد» في سعيها لتكريس وجود كيان انفصالي في مناطق سيطرتها، أو في الاستمرار في الاستثمار على الإرهاب لتحقيق الأهداف الاستعمارية الأميركية؟
يجمع المراقبون والمحللون على عدم التفاؤل بحدوث أيّ تغيير في مواقف وسياسات الإدارة الأميركية الجديدة، ما لم تواجه مخاطر كبيرة تفرض عليها إعادة النظر في السياسات السابقة،
وما يعزز اتجاه الإدارة الجديدة الى اتباع نفس السياسات السابقة، العوامل التالية:
اولاً، انّ بايدن والمسؤولين الذين عيّنهم في إدارته، لم يدلوا بأيّ تصريح او موقف حول سورية، على عكس الموقف من الاتفاق النووي، حيث حرصوا على تأكيد عزمهم العودة الى الالتزام به… لكن من الواضح أنّ أعضاء فريق الإدارة الجديدة هم من الذين احتلوا مناصب مهمة في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، فمثلاً جو بايدن نفسه كان نائباً للرئيس أوباما ومؤيداً لسياساته تجاه سورية والعراق وايران، في حين انّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن شغل منصب نائب وزير الخارجية بين عامي 2015 و2017، ونائب مستشار الأمن القومي من عام 2013 إلى عام 2015، أيّ أنه كان من الفريق الذي شارك في وضع وتنفيذ سياسات إدارة أوباما في المنطقة.. واليوم سيكون هو الوزير الذي يتولى الإشراف المباشر على تنفيذ السياسة الخارجية…
ثانيا، انّ سياسة إدارة بايدن ستعتمد نفس منهج إدارة أوباما، سياسة شنّ الحروب الناعمة التي تستخدم الوسائل غير المباشرة، لتحقيق الأهداف الاستعمارية الأميركية، باعتبارها تستنزف معازضي السياسة الأميركية، ولا ترتب على أميركا أيّ تكاليف مادية وبشرية، على عكس الحروب العسكرية الفاشلة في العراق وأفغانستان التي استنزفت وأرهقت أميركا مادياً وبشرياً وتسبّبت بتفجير أزمتها المالية والاقتصادية عام 2008، وكانت سبباً في فوز أوباما في انتخابات الرئاسة.. وعندما تصل سياسة الحرب غير المباشرة إلى طريق مسدود، ولا تحقق الأهداف المبتغاة منها، يتمّ اللجوء إلى اعتماد البراغماتية لاحتواء تداعيات الفشل عبر عقد الاتفاقيات والتسويات المؤقتة، والتراجع خطوة، رهاناً على تبدّل الظروف لاحقاً بما يسمح لها بتنفيذ ما فشلت فيه سابقاً.. ولهذا شهدنا كيف أنّ إدارة أوباما لجأت إلى خوض مفاوضات شاقة مع إيران حول برنامجها النووي انتهت إلى توقيع الاتفاق معها بمشاركة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا.. ولوحظ أنّ توقيع الاتفاق تمّ بعد أن وصلت إدارة أوباما إلى قناعة بفشل سياسة الرهان على الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران في اخضاع طهران للشروط الأميركية، بل إنّ هذه السياسة بدأت تسفر عن نتائج معاكسة، وانّ توقيع الاتفاق تمّ رغم المعارضة القوية من حكومة العدو الصهيوني برئاسة بنيامين نتنياهو، واللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد في واشنطن…
ثالثاً، إنّ الحزب الديمقراطي لم يصل بعد إلى قناعة بعقم الاستمرار في سياسة التدخل في سورية، إنْ عبر بقاء قوات الاحتلال الأميركية فيها لمواصلة سرقة النفط السوري، أو عبر دعم قوات «قسد» في مشروعها الانفصالي، أو عبر مواصلة تغذية ودعم التنظيمات الإرهابية وفي المقدمة تنظيم داعش لتمكينها من الاستمرار في حربها الإرهابية لاستنزاف الدولة الوطنية السورية وحلفائها في حلف المقاومة وروسيا.. فالرهان في واشنطن لا يزال قائماً على مواصلة حرب استنزاف سورية وحلفائها لفرض الإملاءات والشروط السياسية الأميركية لتسهيل إنهاء الحرب وعودة النازحين وإعادة إعمار ما دمّرت الحرب الإرهابية…
والمؤشرات على استمرار هذا التوجه الأميركي بمواصلة حرب الاستنزاف ضدّ سورية والعراق معاً، ظهرت من خلال ما حصل مؤخراً اثر انتقال السلطة من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن. وتجسّدت هذه المؤشرات في ما يلي:
1 ـ قيام مروحيات الاحتلال الأميركي بنقل مئات من عناصر داعش الذين كانوا أسرى لدى «قسد» إلى مناطق البادية السورية العراقية في سياق خطة أميركية لإعادة تنشيط عمليات داعش الإرهابية.
2 ـ إقدام تنظيم داعش الإرهابي على تنفيذ تفجيرات دموية في ساحة الطيران في بغداد أسفرت عن سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين.
3 ـ تنفيذ طيران العدو الصهيوني عدواناً على مدينة حماة، أوقع عدداً من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين.
4 ـ إقدام «قسد» على تصعيد إجراءاتها التعسفية ضدّ السكان المدنيين في مدينة الحسكة، عبر فرض الحصار على أحياء المدينة وقطع المياه عنها في سياق خطة الضغط على الدولة السورية لإجبارها على التسليم بشروطها لتكريس الأمر الواقع الانفصالي في شمال شرق سورية.
انطلاقاً مما تقدّم فإنّ الرهان من قبل سورية وحلفائها في حلف المقاومة يبقى على مواصلة توفير مقومات الصمود في مواجهة الحرب الناعمة، وخوض الحرب ضدّ قوى الإرهاب لتطهير الأرض السورية منها، ومنع تكريس الأمر الواقع الانفصالي من ناحية، وتصعيد المقاومة الوطنية المسلحة والشعبية ضدّ قوات الاحتلال الأميركية وعملائها من ناحية ثانية.. فمن دون تصعيد المقاومة واستنزاف قوات الاحتلال ورفع كلفة بقائها وجعل احتلالها مكلفاً يفوق كلفة الفوائد التي تجنيها من استمرار احتلالها وسرقتها لثروات سورية لا يمكن إيصال إدارة بايدن إلى مرحلة اليأس من الاستمرار في المراهنة على مواصلة احتلالها وحربها الإرهابية، والتسليم بالفشل وأخذ قرار الرحيل عن سورية بلا قيد أو شرط.
لقد أكدت التجارب بأنّ المستعمر الأميركي لم يسلّم بهزيمته في أيّ بلد قام باحتلاله، وأجبر على الانسحاب منه من دون تحقيق أهدافه الاستعمارية، إلا تحت ضربات المقاومة المسلحة المتصاعدة، التي زادت من استنزاف قواته المحتلة بشرياً ومادياً، وحوّلت استمرار احتلالها إلى حجيم لم تعد قادرة على احتماله، تماماً كما حصل في فيتنام والعراق وحالياً في أفغانستان…