تاريخيًا، بدأت الظواهر "الشعبوية" في العالم كنتيجة لفقدان الثقة بالطبقات الحاكمة، وبدأت تبرز مجموعات داخلية سياسية تعلن أنها تتكلم باسم "الشعب" ضد النخب السياسية.
بهذا المعنى التقليدي كان للموجات الشعبوية التي نشأت في منتصف القرن التاسع عشر مثلاً في روسيا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية والتي أرادت أن تدعم الفلاحين وسواهم من الطبقات الشعبية تأثير على السياسة الداخلية وعلى تطور أسس الديمقراطية في تلك البلدان.
لكن الحركات الشعبوية في العالم اليوم، باتت تأخذ اتجاهات مختلفة عما انطلقت عليه تلك الموجات التاريخية، فصرنا نجد:
- "الشعبوية اليمينية" التي عمّت أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والتي تعاظمت قوتها بعد مجيء ترامب الى البيت الأبيض عام 2016، وتزامن معها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وصعود الأحزاب اليمينية في نختلف أنحاء أوروبا. وهذه تركّز على العوامل الثقافية وعلى صراع الهويات، وتهاجم المهاجرين والفئات الثقافية الأخرى.
- "الشعبوية اليسارية" التي انتشرت في أنحاء أميركا اللاتينية مع هيغو شافيز وغيره، وهي تركّز على الشق الاقتصادي وتدعو الى تغيير السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. هذه تجد تجلياتها اليوم في العديد من الجمعيات التي تنادي بمسار مختلف للعولمة النيوليبرالية التي سحقت الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والتي - برأيهم- أدّت الى موجة اغتراب في العالم خاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.
وللمفارقة، بقي تأثير الشعبوية اليسارية مضبوطاً في الحيز الجغرافي العالمي، بينما كان لليمين الشعبوي في الغرب تأثير كبير، بدّل في وجه العالم خاصة بعد مجيء ترامب بسياساته العنصرية تجاه الآخرين متل السود والمسلمين ودول أفريقيا، واعتماده فكرة تفوّق العرق الأبيض في الداخل الأميركي وغيرها...
كيف يتصرف الشعبويون بشكل عام؟
بالرغم من التباين الايديولوجي بينهم، يؤمن الشعبويون من جميع الفئات (اليمينية واليسارية) أنهم "فئة مختارة" من البشر، وأنهم يتمتعون بالوعي والحنكة والبصيرة أكثر من غيرهم. ويصوّر هؤلاء أنفسهم أنه "المنقذ" من شرور ومصير أسود ينتظر الشعب.
كما يقومون عادة باستغلال أي أزمة للتصويب على السياسات المتبعة وعلى النخب التقليدية لإعلان فشلها، وهذا طبيعي جداً فلولا فشل السياسات السابقة في حلّ المشاكل لما ذهب الناس الى خيارات شعبوية، وللانجرار وراء أشخاص يعرفون كيف يخاطبون وجعهم وغرائزهم.
ويقوم الشعبويون بشكل عام باستخدام اسلوب البذاءة في التعبير والانحطاط في التخاطب السياسي والتنمّر واتهام الخصوم بالخيانة وبأقذع العبارات ويمارسون الكذب في السياسة بدون خجل.... فنجد مثلاً ترامب والرئيس الفليبيني والرئيس البرازيلي يستخدمون عبارات غير دبلوماسية وغير مألوفة عادة في السياسة العالمية، ويروجون لنظريات المؤامرة، ويتنمّر ترامب على هيلاري كلينتون وجو بايدن، ويقوم بتقليد أحد الأشخاص من ذوي الاعاقة الجسدية لإضحاك الجمهور! الخ....
من هنا، نجد أن انتفاضة 17 تشرين عام 2019، اعتمدت بشكل كبير على الأساليب "الشعبوية"، فأعلنت نفسها ضد النخبة السياسية كلها (كلن يعني كلن)، وأنها تتمتع بحس عالٍ من الفهم والوعي بينما مناصرو الأحزاب مجموعة من "الغنم والعبيد"، ولم تتوانَ عن استخدام تعابير سوقية تجاه الخصوم، ومن منا لا يذكر أغنية "هيلا هو"، والتعابير التي تعيّر رئيس الجمهورية بعمره وغير ذلك من الأساليب المعروفة تماماً والمستخدمة من قبل الشعبويين في أنحاء العالم.
قبل تلك الانتفاضة وبعدها، وفي فترة الانتخابات النيابية عام 2018، استخدم رئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل استراتيجية شعبوية، وأعلن حزبه "ضد المنظومة الحاكمة بأكملها" بالرغم من انتمائه لعائلة سياسية بامتياز، وأن حزب الكتائب شارك في السلطة منذ عقود طويلة.وكما سامي الجميل، برز العديد من الوجوه الجديدة التي أعلنت أنها تترشح ضد الطبقة الحاكمة بأكملها في الانتخابات.
لكن، بعد انتفاضة تشرين، والشهرة التي حققتها باستخدام الاساليب الشعبوية، امتدت هذه الظاهرة الى العديد من الأحزاب، التي سوّقت أنها ضد المنظومة الفاسدة (كلهم ما عدا نحنا)، وأنها "صنف مختلف" أرقى وأفضل من الآخرين وأن "وجودهم في السلطة كان للخدمة العامة ومختلف عن وجود الآخرين"، وبات المحازبون على منصات التواصل الاجتماعي آداة للابتذال السياسي والشتائم التي تطلق على الآخرين، واستخدام الألفاظ السوقية ضد كل معارض للرأي، أو منتقد أو أي حزبي من الأحزاب الأخرى.
إذاً، كما في كل لحظة تاريخية، ومع ارتفاع الشعبوية في العالم، ارتفع منسوب الشعبوية في لبنان، وانتقلت من سياسييين وأفراد شعبويين الى أحزاب ومجموعات شعبوية شاملة. فهل نشهد انحساراً لهذا المدّ الشعبوي في لبنان برحيل ترامب الشعبوي وقدوم بايدن التقليدي؟