كان مؤلماً جداً مشهدُ هروب العناصر الأمنية في طرابلس من ملاحقة محتجّين ساخطين ضد الإقفال ومحاضر الضبط. لا يُمكن رمي كرة المسؤولية في ملعب القوى الأمنية، لأنها ببساطة تقوم بواجباتها في تنفيذ أوامر السلطات الحكومية. لا يُمكن ايضاً الجزم بأن المواطن راغب في أن تدبّ الفوضى في الشارع مجددّاً. صحيح أن هناك مجموعات تتحرك بحسب أجندة سياسية في دولة تشهد على أكبر عملية تحلّل في تاريخها، لكن هناك بيئة خصبة بالعوز والفقر، سمحت لأي أجندة بالترجمة على أرض الواقع، خصوصاً في منطقة الشمال المصنّفة مع بعلبك-الهرمل بأنهما الأكثر حرماناً في لبنان.
ترغب مؤسّسات الدولة بتطبيق قرارات الإقفال لمنع تمدد فايروس كورونا. الهدف وطني نبيل من دون أي شك. لكن ما هي بدائل المياومين في أعمالهم؟ كيف يؤمّن هؤلاء قوت عائلاتهم؟ صمدوا أسابيع طويلة كانوا يتتظرون خلالها الفرج، لكن الأزمة تتوسع يوماً بعد أسبوع بعد شهر. لم يجدوا رعاية إجتماعية كافية لتأمين الحد الأدنى من سُبل البقاء على قيد الحياة. وحينما تحاول إقناع مواطن فقير بأهمية الحجر وعدم التخالط بوقف العمل، يأتي الردّ في أسئلة: هل تطعمنا؟ ماذا تؤمن لنا الدولة؟ هل استطاعت الحكومة وضع برنامج إجتماعي أو صحي يلبي جزءاً من حاجات الناس؟ لا أجوبة متوافرة، سوى تفهّم المواطن.
ولنفترض أن الدولة تسعى من خلال اجراءاتها للحدّ من تمدد الفايروس، فلماذا رفعت قيمة محضر الضبط الى ٦٠٠ الف ليرة؟ هو مبلغ يساوي مدخول شهر لمواطن عامل في مهنة متواضعة. هذا أحد الأسباب الذي دفع المواطنين إلى الإحتجاجات إنطلاقاً من طرابلس إلى مناطق أخرى. وإذا سلّمنا جدلاً أن المعنيين في مؤسسات حكومية رفعوا قيمة محضر الضبط لمبلغ مرتفع لمنع المواطن من تكرار المخالفات، فأين يصبّ مدخول تلك المحاضر؟ كان الأحرى بالمسؤولين تخصيص صندوق صحّي او إجتماعي للقول إنّ العائدات ستُدفع للعائلات الفقيرة. كان يُمكن حينها تخفيف النقمة على الحكومة وأجهزتها ولجانها وقراراتهم.
ليس المواطن هو المسؤول عن زرع الفوضى. لو كانت الدولة تقوم بالحد الأدنى من واجباتها تجاه المواطن، ما كان اللبنانيون اعترضوا او تظاهروا او لاحقوا القوى الأمنية لا في طرابلس ولا في غيرها من مناطق. هنا بالذات، يسمح تقصير مؤسسات الدولة للأجندات السياسية ان تتسلّل إلى التنفيذ بسهولة.
لم يعد بالإمكان إتخاذ قرارات تضع المواطنين والقوى الأمنية والعسكرية وجهاً لوجه في الشارع. ليس مقبولاً تكرار مشهد النيل من هيبة تلك القوى، في وقت تزداد فيه السرقات والإعتداءات والجرائم.
لذا، تبدأ المعالجة بتأليف حكومة سريعاً، على قدر عالٍ من المسؤولية الوطنية، عبر التنازلات، بدل التلهّي بحملاتٍ إعلامية وسياسية متبادلة بكلّ إتجاه. وإذا كانت القوى تترقّب متغيّرات إقليمية أو دولية، فهي لن تكون متوافرة قريباً، لأن العواصم مشغولة بأزماتها، في زمن التفرّغ لنسف الإندفاعة الكورونية العابرة للقارات.