عندما يستهل الرئيس الامريكي عهده بمخاطبة الرأي العام الامريكي بالقول :
لا يمكننا ترك الامريكيين يجوعون او يطردون من بيوتهم او يفقدون وظائفهم، فهذا معناه استشعار بخطر تصدع المجتمع وان ما يواجه الداخل الامريكي من خطر ليس نتاج اسباب خارجية انما نتيجة معضلة داخلية تكمن في ازدياد الشقة بين مختلف الوان واطياف وطبقات الشعب الامريكي، وذلك بعد استشراس الرأسمالية الامريكية لصالح تعزيز سطوة شركات التكنولوجيا والصناعات العسكرية المرتبطة بالدولة العميقة ارتباطاً وثيقاً.
يجري ذلك على حساب اهمال الرعاية الصحية والعائدات المالية والتعويضات الاجتماعية التي تخص عامة الشعب، اضافة الى انكشاف فشل وعجز الاداراة في مواجهة جائحة الكورونا تاركة الشعب الامريكي يواجه مصيراً قاتماً.
بدا الداخل الامريكي في مشهد غير مألوف فهناك مشاكل عدة تفاقمت منها المشكلة المزمنة وهي عنصرية اللون بين ابيض واسود، وازدياد الفارق الطبقي في المجتمع الامريكي بين مواطن و مهاجر، اضافة الى تراجع واضح في ميزان الناتج القومي وانخفاض معدل النمو الاقتصادي لادنى مستوى منذ عقود خلت نتيجة العوامل التي ذكرت والتي اسهمت في تعميق الفوارق الطبقية ادت الى تصدع حال الاتحاد والى تعميق الشقة بين مختلف مكونات المجتمع الامريكي لتنتقل امريكا بعدها الى مرحلة اخطر وهي مرحلة الانقسام العمودي على مستوى الشعب بين مناهض لسياسات الدولة العميقة وبين مؤيد لترامب الذي اجتهد في تعصبه لمصلحة امريكا بمعزل عن اجندة الدولة العميقة ولو كان ذلك عن طريق السطو على ثروات دول خارجية او خليجية لتوظيفها في مصلحة بنوك امريكا ولمصلحة الشعب الامريكي.
لم يكن اداء الرئيس دونالد ترامب مرضياً عنه من قبل الدولة العميقة التي اتخذت قرارها بوجوب تجيير كل امكانات الشركات الكبرى بالابتعاد عن دعم ترامب واغلاق منصات التواصل المؤثرة وممارسة التعتيم الاعلامي بوجهه وتوجيه الانظار نحو شيطنته للاطاحة به بل ومحاكمته وذلك لقطع الطريق مستقبلاً امام اي امكانية لعودته الى الحياة السياسية في امريكا.
انقسم المجتمع الامريكي بين مؤيد لدونالد ترامب وبين مؤيد لجوزيف بايدن الموصوف انه سليل الدولة العميقة، انقسام ترجم بأعمال شغب وفوضى في الشارع الامريكي، نتج عنه ما عرف بغزوة الكابيتول، فضاعت الديمقراطية في زواريب واشنطن الامر الذي ادى الى احتلال المبنى لساعات، ما استوجب استدعاء اكثر من 35000 من افراد الحرس الوطني الامريكي لانهاء احتلال الكابيتول، وهكذا استطاعت الدولة العميقة فرض ديمقراطيتها بقوة العسكر وبالتالي تثبيت فوز مرشحها بايدن رئيسا لامريكا.
انقسم المحللون واصحاب الرأي بين امكانية تجاوز امريكا الانقسام الداخلي بترميم الديمقراطية فيها، وبين من رأى ان ما شهدته امريكا مؤخراً خلق مناخاً جديداً سيعمق الانقسام مستقبلاً خصوصاً ان قسماً وازناً من المجتمع الامريكي تذوق طعم التمرد على الشرعية في محاولة لمنعها من فرض ديمقراطية مزيفة وانه لن يكون باستطاعة امريكا تجاوز ارتدادات ما حصل لانه سيشكل عاملاً ضاغطاً على الادارة الامريكية للانكباب على ترميم ديمقراطيتها المعتلة وللبحث عن السبل الايلة لاصلاح البيت الامريكي الداخلي.
بعد دخوله البيت الابيض صرح بايدن ان اولوياته هي اعادة اللحمة وتعزيز حالة الاتحاد في المجتمع وهذا دليل بان ارهاصات الانقسام الداخلي قد بلغت مرحلة خطيرة الى مستوى غير مسبوق في تاريخ امريكا وباتت معها تهدد اسس النظام وبان اصلاح ذات البين في الداخل الامريكي سيحتاج الى وقت طويل.
وبالانتقال الى منطقتنا العربية وازماتها المفتوحة نرى ان بعض الجهات تعول على تغيير في نمط سلوك الادارة الامريكية الجديدة وانها ستكون اكثر عقلانية من سابقتها في التعاطي مع القضية الفلسطينية و ايران وسوريه والعراق واليمن ولبنان.
وفي نظرة سريعة على مكون اعضاء ادارة بايدن يتضح لنا عبثية هذا التعويل لان مكونات الادارة هم داعمون للعدو الاسرائيلي بشكل مطلق وهم انفسهم اصحاب فكرة تقسيم العراق، وهم من رافضي تنفيذ الانسحاب الامريكي من سورية وهم الداعون للاستيلاء على نفط العراق وسورية وهم اصحاب مشروع اقتطاع شرق الجزيرة عن سوريه وتنصيب شخصية سورية رئيسا عليها شبيهة "بخوان غوايدو" في تكرار للسيناريو الفنزويلي لابقاء المنطقة بحالة اضطراب مع حروب مفتوحة بالواسطة من خلال اعادة الحياه الى الربيع العربي واطلاق جديد لتتظيم داعش في كل من سورية والعراق ولبنان وتنظيم الاخوان في كل من تونس ومصر والسودان وليبيا،
وفي روسيا فقد افتتحت ادارة بايدن عهدها بتورط فاضح في محاولة افتعال ربيع روسي من خلال استثمار قضية الجاسوس الروسي الكس نافالني.
وبالنسبة لايران وبرغم اعلان بايدن رغبته بالعودة الى الاتفاق النووي مع ايران بيد ان الدولة العميقة في امريكا صعدت من شروطها مضيفة ملفي برنامج ايران الصاروخي وانضمام دول الجوار بما فيها العدو الاسرائيلي بحجة تطوير الاتفاق
الا أن جواب ايران كان واضحاً بان لا عودة للاتفاق قبل ازالة العقوبات المفروضة عليها واعلنت رفضها تنفيذ شروط الدولة العميقة بلاءات البحث في ملف البرنامج الصاروخي ورفضها انصمام دول المنطقة للمفاوضات بيد ان حقيقة الامور تشي بان الدولة العميقة لا تريد انجاح المفاوضات مع ايران بل انها تجهد لبناء حلف عسكري تكنولوجي اقتصادي بين الدول الخليجية مع العدو الاسرائيلي ليس لتحصين شروط الاتفاق انما لانشاء جبهة عربية صهيونية موسعة لمواجهة ايران ودول محور المقاومه وذلك لتنفيذ ما تبقى من صفقة القرن وانهاء القضية الفلسطينية ما يؤكد ان الدولة العميقة غير راغبة بالعودة الى الاتفاق النووي مع ايران
صحيح ان الاهتمام الامريكي حالياً منصبٌ على تلميع صورتها عالمياً من خلال اعادة الانخراط في معاهدات دولية مثل معاهدة المناخ في باريس واعادة العمل باتفاقية سارت للحد من انتشار الاسلحة النووية لكن الهدف الاساسي لادارة بايدن هو اعادة ترميم التحالف الاوروبي الامريكي وربطه بها لتشكيل جبهة مواجهة ضد الصين وروسيا وايران لذلك نرى تناغماً فرنسيا المانياً لتنفيذ رغبات ادارة بايدن الموالية للدولة العميقة في امريكا تحمل معها مؤشرات استمرار تصعيد الحروب بالواسطة في دول المنطقة الداعمة لمحور المقاومة مترافقة مع ضغط اقتصادي وعسكري متواصل.
علمنا التاريخ ان الديمقراطية المفروضة بواسطة العسكر كما حصل في واشنطن ما هي الا ديمقراطية مزيفة ومعتلة لا يمكن اعتمادها كأساس يبنى عليها كقدوة في ادارة الدول او لانصاف الشعوب في قضاياهم المحقة.