في ظلّ شبه المراوحة التي تعيشها منطقة إدلب، مراوحة لا يخرقها الا بعض عمليات القصف المحدود رداً على عدوان إرهابي أو خرق لوقف إطلاق النار غير معلن، وفي ظلّ التحرك المحدود للجماعات الإرهابية وجماعات «المنقلبين على مصالحة الجنوب» وما يقابله من سعي سوريّ لمنع الخروق تلك والتصدّي لمحاولات العودة الى الوراء وصولاً الى انهيار المصالحة كلياً، في ظلّ كلّ ذلك يبدو المسرح السوري في الشرق والشمالي الشرقي – شرقي الفرات – هو الميدان الأكثر حدة والأشدّ حرارة الذي يتفاعل بشكل ينذر بتطورات خطيرة وهامة تتواجه فيها قوى ذات مصالح متنافرة او متقاطعة في بعض أجزائها، تطورات تبدو وكأنها في سباق مع الزمن حيث يريد كلّ طرف من المتحرّكين على المسرح فرض واقع يؤسّس الى مستقبل يناسبه في الميدان، وتالياً لرسم حدود موقعه وحجمه على الساحة السورية برمّتها.
فالحركة الكردية الانفصالية المسمّاة «قسد» تريد استغلال عودة بايدن الى السلطة في أميركا، وتسعى الى تغيير الواقع يما يبرّر تدخله لصالحها وإنعاش مشروعه البديل بتقسيم سورية بعد أن سقط المشروع الأصلي بالسيطرة عليها، ولهذا تلجأ «قسد» الى تفعيل سياسة التغيير الديمغرافي المنفذة من قبلها عبر عمليات التطهير العرقي أو الإخضاع، وبشكل تتوخّى منه تفريغ المنطقة من الأكثرية العربية فيها لتتحوّل الى منطقة ذات أكثرية كردية تسيطر على أقليات عرقية متناثرة لا تشكل تهديداً لحكم «قسد» فيما لو نجحت في تثبيت دعائم كيانها الانفصالي.
ومن أجل ذلك ترتكب قسد بحق السكان العرب في المنطقة التي تسيطر عليها شمال شرقي الفرات أبشع وأقذر الجرائم وأشدّها خسة وانعداماً للشرف والأخلاق، وتمسّ بجرائمها تلك كلّ شرائح المجتمع العربي وعلى المستويات كلها، ونذكر من جرائمها ذكراً لا حصراً، عمليات اغتيال رؤساء العشائر، وحرق المحاصيل الزراعية، والحصار وقطع المياه، وتعطيل عمل القطاع الصحي الرسمي والخاص، وإقفال المدارس الرسمية والخاصة، فضلاً عما تفرضه من أعمال سخرة وتجنيد إجباري أو حرمان من فرص العمل وإقفال المشاريع، وكلها جرائم ترتكبها بشكل يجعل الحياة مستحيلة في المنطقة من دون غذاء أو ماء أو دواء أو تعليم أو إنتاج ما يجبر السكان على الرحيل والهجرة بما يحقق أهداف «قسد» من تغيير ديمغرافي في المنطقة يسهّل لاحقاً إعلان الكيان الانفصالي ذي الأكثرية الكردية على مساحة تكاد تعادل 22% من مساحة سورية كلها.
أما القديم المتجدّد الذي تشهده المنطقة من البادية والجزيرة الى المدن الأساسية فيها شرقي تدمر وصولاً الى البوكمال ودير الزور، فهو استعادة خلايا داعش لنشاطها الإرهابي بشكل أشدّ إجراماً وأكثر وحشية، حيث ترتكب العمليات الإرهابية بشكل أساس ضدّ المدنيين وضدّ العسكريين خارج الخدمة وأثناء انتقالهم للاستفادة من أوقات الاستراحة الشهرية التي يسمح لهم بها وفقاً لظروف الميدان.
وتهدف داعش من إشعال النار الإرهابية في تلك المنطقة التي تتسع مساحتها لتصل الى 2000 كلم يتوسطها شرقاً معبر البوكمال – القائم (في العراق) الى شلّ الجيش العربي السوري وحلفائه من المنطقة أو تعطيل قدراته وإفساد حالة الأمن والاستقرار فيها بما يؤدّي إلى قطع محور الاتصال بين العراق وإيران شرقاً وسورية ولبنان غرباً في خطة ترمي الى إفشال محور المقاومة في السيطرة على طريق الاتصال البري بين مكوناته ومنع سورية من فرض الاستقرار واستعادة السيطرة على مواردها الطبيعية النفطية والزراعية في المنطقة الشرقية والجزيرة بما يخدم سياسة الضغط الأميركي التصاعدي والذي كان «قانون قيصر» الأميركي آخر تجلياته الإجرامية.
أما تركيا التي تخشى من احتضان بايدن لـ «قسد»، وتخشى من نجاح الأخيرة في سعيها لإقامة الكيان الكردي الانفصالي على حدودها الجنوبية في شرقي سورية، وتسعى لتنفيذ بعض ما في الميثاق الملي الذي تتمسك به، فإنها تتحرك في سباق مع الوقت للتقدّم في عمق المنطقة الشرقية الشمالية للسيطرة على مفاتيحها الاستراتيجية كعين عيسى وسواها، بشكل يعرقل خطة «قسد» ويراكم الأوراق التركية في مواجهة سورية أولاً ويوطئ لاهتمام أميركي أكبر بالمصالح الأمنية والسياسية التركية في سورية. فتركيا ترى انّ توسيع احتلالها في سورية مع السيطرة على مناطق ذات خصوصية استراتيجية أمر ملحّ لها خاصة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة التي تعتقد بأنّ أميركا لن تتحرك خلالها في سورية او العراق، لأنها ستكون مشغولة حتى الإرهاق الشديد بملفاتها الداخلية التي خلفها ترامب ولا زال يشكل تهديداً بها.
ولتعقيد المسألة أكثر ولتوفير فرص نجاح الأطراف المذكورة في جرائمها ضدّ سورية وحدة وسيادة وأمناً تتدخل «إسرائيل» بشكل منهجي مخطط مستهدفة مراكز الجيش العربي السوري في المنطقة بشكل تدميري مركز تبتغي منه إخراجه من مواقعه وتوفير فرص أكبر لنجاح كلّ من الأكراد والإرهابيين في أهدافهم المذكورة.
ونعود الى صاحب الحق السيادي والمعني الأساس في المنطقة، أيّ سورية وحكومتها وجيشها، والى حلفائها الذين يحضرون ببعض قواتهم في تلك المنطقة، فنجد أنهم ومنذ أشهر عدة يمارسون عمليات الدفاع الثابت وتعزيز السيطرة على المواقع التي يشغلونهم مع التشبّث بها بما يمكنهم من تنفيذ استراتيجية تحرير المنطقة من الاحتلال الأميركي الذي يشكل المرتكز والأساس الذي يستند اليه الانفصالي الكردي «قسد» والإرهابي المتجدّد «داعش» من دون أن نهمل ما تتوخاه تركيا من هذا الاحتلال… فخروج أميركا من المنطقة يعني قطع 75% من الطريق لتحريرها واستعادتها إلى كنف الدولة.
وعليه فإننا نرى انّ سورية تواجه حشداً من القوى من دول وحركات انفصالية وجماعات إرهابية تتقاطع مصالحها أو تتباعد، لكنها تتوحّد كلها في اتجاه واحد هو العمل ضدّ سورية وحلفائها لمنعها من استثمار الانتصار وعرقلة العودة الى الحياة الطبيعية والحؤول دون تفعيل موقعها الاستراتيجي في الإقليم، لذلك تعمل تلك القوى المعادية مشكلة من المخاطر ما يستوجب المواجهة بخطط واستراتيجيات تذكر بما اعتمد خلال السنوات العشر الأخيرة في إطار المعركة الدفاعية في مواجهة الحرب الكونية.
وبشكل موضوعيّ، يمكننا القول إنّ منطقة شرقي الفرات تشكل اليوم المسرح المختصر لاستكمال الحرب على سورية من قبل الأساسيين في جبهة العدوان عليها، وتشكل المدخل الإجباري لتثبيت سورية لنصرها الاستراتيجي الذي تحقق حتى الآن. نقول ذلك من دون أن نهمل أهمية تحرير منطقة إدلب لكننا عدلنا في ترتيب الأولويات الآن لأنّ منطقة شرقي الفرات باتت تتقدّم أهمية وخطورة على الأخرى بسبب ما ذكرنا من حجم التدخلات فيها ونظراً للاحتلال الأميركي الجاثم عليها والذي يمدّ كلّ أعداء سورية بالدعم المعنوي أو الإسناد العسكري المباشر وغير المباشر لتحقيق أغراضه ضدّ سورية.
وعليه نرى أنّ ما بات يتشكل من قوى دفاع سوري قائمة على مثلث متماسك متشكل من رفض شعبي وتحرك ميداني ورعاية وصلابة رسمية هو العلاج المناسب الذي لا بدّ منه لدفع الأخطار التي تشكلها تلك المصادر المعادية.
انّ تمسك الشعب السوري بأرضه ورفض الهجرة والرحيل عنها سيسقط خطة «قسد» في التغيير الديمغرافي، وفعالية القوة القتالية الميدانية السورية بفرعيها الجيش والمقاومة الواعدة، وعملهما ضدّ قوى العدوان المركب أمر من شأنه أن يفسد خطة المحتلّ والإرهابي والصهيوني في شلّ المنطقة ومنع استقرارها، كما يسجل انّ المقاومة باتت تشكل تهديداً يتطوّر باستمرار لإسقاط ما يخطط للمنطقة، وأخيراً وهو الأساس، انّ صلابة الدولة السورية وتمسكها بوحدة الأرض وقدرتها على استيعاب الضغوط السياسية والميدانية معطوفاً على ما تقدّم من موقف شعبي ومواقف ميدانيّة كفيل بإفشال خطة اقتطاع شمال شرقي الفرات أيّاً كان المعتدي محلياً او إقليمياً أو دولياً.