لا تصحّ نظرية فصل مشروع حل الأزمة اللبنانية عن المسارات الإقليمية والدولية، لإعتبارات أولها أنّ اللبنانيين أنفسهم يربطون سياساتهم وقراراتهم تاريخياً بإتجاهات عواصم عدّة، وثانيها أن باريس توحي من خلال طلبها المؤازرة الأميركية، كما بدا في مضمون تصريح مصدر في الرئاسة الفرنسية في الساعات الماضية، بأن هناك إمكانية أميركية للمساهمة في إستيلاد الحل الحكومي في لبنان.
لذا، يرصد اللبنانيون توجّهات الإدارة الأميركية الجديدة في الإقليم: هل تُقدم على السير بمفاوضات مع الإيرانيين؟ يبدو المشروع قائماً. ما علاقة لبنان؟ لا علاقة نتيجة وجود إقتراح لفصل الملفات. هل يُمكن إيجاد أرضية إتفاق بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين؟ أوحى الإتصال بينهما أن هناك نيّة مشتركة بوضع كل الملفات على بساط البحث بين موسكو وواشنطن. العين على دمشق التي يقرّ الأميركيون المحيطون بالإدارة الجديدة في احاديثهم أن بشار الأسد سيبقى رئيساً لسوريا من دون وجود منافسة جدية له في الإنتخابات المقبلة في شهر حزيران المقبل. هذا مؤشر مهم حول طبيعة التعاطي الأميركي المُرتقب مع سوريا، في ظل تزايد دعوات شخصيات أميركية وازنة بشأن "ضرورة رفع جزء من العقوبات عنها تحت عنوان إنساني". لكن ماذا عن القوى النافذة في الجغرافيا السورية؟ هنا يجري الترقب لمعرفة ماذا سيجري.
أساساً، لا قدرة للاميركيين على فتح جبهات نزاع بكل إتجاه: إيراني، روسي، صيني، ايضا لا في سوريا ولا في اي دولة عربية اخرى. لم يعد الجمهور الأميركي هو ذاته يتقبّل إرسال جنود إلى ساحات العالم. تعرف إدارة بايدن أن الرئيس السابق دونالد ترامب إستند الى قرار شعبوي مهم هو: سحب الجنود الأميركيين إلى داخل البلاد وعدم شن حروب. تباهى ترامب بأنه أولُ رئيس للولايات المتحدة لا يخوض حروباً. مما يعني أن الشعب الأميركي لا يحبّذ فكرة نشر جنوده ولا خوض حروب في ساحات العالم لا بالأصالة عن نفسه ولا بالوكالة عن حلفائه. لذا، لا يريد بايدن مشاكسة معظم الأميركيين، وهو رئيس يحتاج الى كسب رضى الشعب الأميركي، بعدما أظهرت نتائج الانتخابات قوّة خصمه ترامب وعدم صمت الأخير وعشرات الملايين من أنصاره عن أي قرار مهم، يجري تصنيفه أنه ضد المصلحة الأميركية العامة. هذا أحد الأسباب المهمة التي تدفع البيت الأبيض للدخول في تسويات، وإعادة ربط وتحسين علاقات واشنطن مع حلفائها التقليديين: الدول الأوروبية، الهند، باكستان، اليابان، وغيرهم، وتفويضهم بأدوار تحدّدها المصالح المشتركة، إضافة إلى إعادة تعزيز دور حلف دول شمال الأطلسي. من هنا يأتي إنتظارُ الموقف الأميركي لتبنّي ودعم المبادرة الفرنسية في لبنان، وتفويض بايدن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لإمساك الملف اللبناني.
لن تكون الولايات المتحدة مهتمّة بتفاصيل لبنانية، رغم أن سفيرة واشنطن في بيروت أعدّت تقريراً بعد جولتها الأخيرة على المسؤولين اللبنانيين لتقديمه إلى وزارة الخارجية الأميركية الجديدة. تلك مسائل تقليدية عادية، لا ترتقي إلى حدود وضع لبنان على جدول أعمال البيت الأبيض.
بالإنتظار، اتت عملية الإحتجاجات في الشارع اللبناني إنطلاقاً من طرابلس، وسط الحديث عن توظيف سياسي لإستغلال نقمة الشعب الذي يئن فقراً وعوزاً مستداماً. كان مُمكناً إمتصاص تلك النقمة الشعبية، لكن خلافات السلطة السياسية وتمديد أزمة التأليف الحكومي وعدم الإكتراث بالواقع الإقتصادي الصعب، ساهموا جميعهم بإشعال الغضب الذي إستغله المعارضون لكلا فريقي "العهد الرئاسي" ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري: من يدفع أموالاً لمجموعات لقاء التصعيد وهزّ الوضع الأمني؟.
يبدو أن العبث بالأمن مقصود بإستهداف رمزية الدولة من خلال محاولة حرق أو تخريب مؤسساتها الحكومية في عاصمة الشمال، وهو امر خطير سيحملُ تداعيات وينتج عنه مستجدات، أولها: ألاّ قدرة لأي حكومة "تكنوقراط" آتية على ضبط الوضع. سيكون أنجح وزير اختصاصي غير سياسي عاجزاً عن إتخاذ قرارات على طاولة مجلس الوزراء تتطلبها الأزمات الأمنية والسياسية والإقتصادية الداخلية والمستجدات الإقليمية، في ظل إنتعاش "داعش" مجدداً في الساحات المجاورة للبنان. فهل طيّرت الأحداث الجارية مشروع "التكنوقراط"؟. تشير المعطيات إلى انّ مقاربة ملف التأليف الحكومي، بعد أحداث طرابلس، لن يكون بمعزل عن هواجس مخاطر أمنية موجودة وأزمات سياسية مفتوحة. فالحكومة الآتية لن تُواجه فقط ملفات إقتصادية ومالية. بل إن جدول أعمالها سيكون عامراً بعناوين استراتيجية وتفاصيل تحتاج الى توازن سياسي مطلوب، لا تؤمنه فكرة التكنوقراط.
من جهة ثانية، يؤكد الخطاب السياسي المُوازي لأحداث طرابلس أن باب التنازلات الذي كان من المُمكن أن يفتحه الحريري، ولو بزاوية ضيقة، لتسهيل عملية تأليف الحكومة بات موصداً. لن يكون بمقدور رئيس تيار "المستقبل" أن يخفّض سقفه بعد طرابلس. سيتمسك بشروطه التي يرضى عنها الشارع السنّي وكل قواه السياسية. هذا يعني أيضاً تصلّب فريق التيار "الوطني الحر". مما يؤكّد الحاجة لإيجاد مخرج للأزمة عندما تحين ساعة الحل.
أمام تلك الوقائع تُصبح عملية مقاربة الملف الحكومي مختلفة عن الأشهر الماضية. التكليف موجود بقوة الدستور والواقع السياسي اللبناني والخارجي، بإعتبار أن الحريري مقبول عند معظم الإتجاهات الداخلية والإقليمية والدولية المؤثرة، ولا يُمكن ترجمة رغبة فريق رئيس الجمهورية ميشال عون بإبعاده عن المشهد الحكومي لتكليف بديلا عنه. لكن المتغيرات ستطال ماهية وشكل الحكومة، لتُعتبر حينها تلك المتغيرات بأنها مخارج الحل في لبنان. متى؟ لا أحد يعلم. يبدو أننا سننتظر اكثر.