لم تحلّ الأزمة المعيشية - الاقتصادية في طرابلس في غضون الأيام القليلة الفائتة، فهي مصنّفة منذ نحو عقدين من الزمن، المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، علماً أنها تضم كبار أثرياء لبنان، ومنهم من تولى السلطة، وكان في موقع القرار، منذ زمن (الوصاية) حتى اليوم، كوّن غالبية مكونات المنظومة الحاكمة في البلد، إن لم نقل برمتها، نشأت وترعرت في ذلك الزمن، وأنشأت دولةً عميقةً، من خلال فرض أتباعٍ لها، في مختلف مؤسسات الدولة، خصوصاً الأمنية والقضائية، وأيضاً في القطاعات الرسمية الخدماتية، فمكّنهم ذلك من الإمساك بمفاصل المؤسسات المذكورة، وباتت هذه المنظومة، هي السلطة الحاكمة الفعلية، وإن لم تشارك في الحضور إلى طاولة مجلس الوزراء. والمؤسف أن المنظومة الفاسدة لم تسهم في تخفيف المعاناة عن أبناء الفيحاء، لا بل الأنكى من ذلك، تؤكد الوقائع والأحداث، أن الطرابلسيين لم يرتقوا يوماً إلى درجة مواطنين، وفقاً لحسابات "المنظومة"، التي كان بعض أركانها يغدق عليهم الوعود الفارغة بإبجاد فرص أعمال ومئات آلاف الوظائف لأبناء طرابلس المحرومة، بالإضافة إلى توزيع الفتات من فوائد الأموال المكدّسة في حسابات أركان منظومة الفساد والإفساد المودعة في المصارف الداخلية والخارجية، على بعض الطرابلسيين، في عمليات شراء الضمائر والذمم، التي تسبق أي استحقاق انتخابي، كذلك من أجل تحشيد المواطنين في الاستعراضات السياسية. والأفظع من ذلك كله، أن بعض هؤلاء "الأركان"، استخدم ويستخدم لبنان الشمالي، وعاصمته، كصندوق بريدٍ لإيصال الرسائل الدموية، بل الإجرامية، إلى الداخل والخارج. وللأسف فقد وجد الخائبون في بيروت خلال حوادث السابع من أيار 2008، الساحة الطرابلسية، أرضاً خصبة لتمرير مؤامراتهم ومآربهم، و"تنفسية"، كتعويضٍ عن هزيمتهم المدوية في العاصمة في السابع من أيار، عندما حاول التيار الأزرق، "لعب الورقة الأمنية" مع المقاومة، وكالمعتاد استخدم هذا التيار أبناء الشمال وقوداً، في مراهنته الفاشلة في بيروت في حينه، والمستدامة حتى الساعة، فزهقت يومها أرواح خيرة شباب الشمال في مراهناتٍ فاشلةٍ ومتكررة ومعتادة ومستمرة، وحروبٍ عبثيةٍ، بعد لجوء هذا التيار وأدواته، إلى تعبئة هؤلاء الشباب، وتحريضهم مذهبياً، ضد مكوّن أساسيٍ من مكونات المجتمع اللبناني، لا مفر من التفاهم معه في سبيل إرساء صيغة العيش الواحد في نهاية المطاف. غير أن التيار المذكور، لم يستخلص العبر من عبثية مما حدث في بيروت في السابع من أيار، من سفك دماء شباب مضللين، لا بل نقل المواجهات الدامية، إلى الساحة الشمالية، من خلال نكأ جرح يعود إلى العام 1978، يوم زج بمنطقتي باب التبانة وجبل محسن، في الصراع بين حركة فتح وسورية، واستقدمت "الحركة" الفارين من تنظيم الأخوان المسلمين من الجارة الأقرب، وأمنت لهم الملاذ الآمن لهم في طرابلس، ما شكل تهديداً للأمن الوطني السوري، نظراً لقربها الجعرافي من سورية، ولأنها كانت تشكل عبر التاريج جزءاً من الأمن القوي السوري، وخط صدعٍ بين جبل لبنان وجبال العلوييين، بالإضافة إلى التداخل الاجتماعي بين البلدين. وفي نهاية المطاف، اضطر الجيش السوري إلى دخول المدينة، وإنهاء الحالة "العرفاتية – الأخونجية" في العام 1985 ثم في الضنية في نهاية العام 1986. وبالعودة إلى نقل حوادث السابع من أيار 2008 إلى الساحة الشمالية، فقد عمد مسلحون في عكار، إحدى قواعد تيار المستقبل، إلى ارتكاب مجزرة وحشية، لم يشهدها لبنان في الحرب الأهلية، أودت بحياة أحد عشر عضواً من الحزب السوري القومي الاجتماعي في حلبا، في العاشر من أيار من العام عينه، كرد على هزيمة "المستقبل" في بيروت.
وبعد تسوية الدوحة في أيار 2008، أراد الرئيس سعد الحريري، طي صفحة حوادث "التبانة- جبل"، فعقد مصالحةً مع النائب السابق الراحل علي عيد في منزل المفتي مالك الشعار في طرابلس، في حضور أعيان المدينة، وذلك في تاريخ 15 أيلول 2008.
غير أن هذه المصالحة لن تعمّر كثيراً، فقد سقطت، إثر اندلاع الأزمة السورية، وسقوط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في العام 2011. فشهدت طرابلس واحد وعشرين جولة اشتباكٍ دامٍ بين أبناء المدينة في "الجبل – التبانة". كذلك تم استخدام الفيحاء، كقاعدة لاستهداف الاستقرار السوري، من خلال إعادة إيواء المجموعات التكفيرية المنغمسة في الحرب على سورية، في طرابلس، كما كان الوضع في حقبة 1978- 1985، بالإضافة انخراط بعض الشاب الطرابلسي في هذه الحرب، "كمجموعة تلكلخ" التي كانت تضم 21 مسلحاً، قتلهم الجيش السوري في بداية كانون الأول 2012، هذا بالإضافة إلى استخدام مرفأ طرابلس، لإيصال السلاح إلى المجموعات الإرهابية في سورية، وخير دليل على ذلك توقيف الجيش اللبناني قبالة ساحل البترون، لباخرة "لطف الله 2"، المحملة بالسلاح المستورد إلى المجموعات السورية المسلحة، وكانت متجهةً من ليبيا إلى مرفأ طرابس في نيسان 2012.
وهكذا دواليك يستمر أركان منظومة الفساد الحاكمة ورعاتها الإقليميين، في البقاء على غيهم، وإبقاء طرابلس صندوق بريد، كما اعتادوا سابقاً في مرحلتي 2008، ثم 2011 – 2013، ولكن هذه المرة من دون جولات اقتتال "الجبل – التبانة"، وحتماً من دون أن يتخلى هؤلاء "الأركان"، عن أسلوب استغلال فقر أبناء طرابلس، وعوزهم، كذلك لجوء المنظومة عينها، إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، عبر دفع أدواتهم وأجهزتهم إلى تحريض المحتجين إلى شتم بعض الرموز اللبنانية، وفي طليعتهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وكأنهما المسؤولان عن الحال الاجتماعية والمعيشية الرديئة التي تعانيها الفيحاء. وما يثبت حتمية، تحريك الاحتجاجات الأخيرة في طرابلس، لأهداف سياسية وأمنية، تخدم مصالح المنظومة ورعاتها، هو انصراف المحتجين عن المطالبة بتحسين أوضاعهم السيئة، ومحاسبة المسؤول عنها، فانصب اهتمامهم بالمطالبة بوقف التهريب على الحدود مع سورية في الهرمل وبريتال، على سبيل المثال لا الحصر، بالإضافة إلى إحراق الدور الرسمية. وعن توقيت التحركات الأخيرة وأهدافها، يؤكد مرجع شمالي أن مختلف القوى المناوئة لمحور المقاومة في المنطقة، حركت أتباعها وأدواتها التخريبية في العراق وسورية ولبنان في آنٍ معاً، بدليل تحرك الدواعش في العراق وسورية في الآونة الأخيرة، على حد قول المرجع. ويعتبر أن الهدف من تحريك أدوات التخريب المذكورة في هذا التوقيت بالذات الذي يشهد فيه العالم مرحلةً انتقاليةً ما بين رحيل الإدارة الأميركية السابقة، وتسلم الإدارة الجديدة إدارة دفة الحكم، هو خشية تلك القوى، من حدوث تغيير في السياسية الخارجية الأميركية تجاه إيران، لذلك عمدوا إلى تصعيد الأوضاع في المنطقة ككل، ومنها طرابلس، علّهم يستطيعون خطفها، وتحويلها إلى بؤرة اشتباك، ومحاولة إدخالها في أي تسويةٍ سياسيةٍ في لبنان والمنطقة. ويجزم المرجع أن كل أعمال الترهيب والتخريب والإرهاب، لن تبدل في موازين القوى القائمة في المنطقة، التي فرضت نفسها بقوتها، وما عجز عن تحقيقه المحور المعادي للمقاومة في العقدين السابقين، لن يفلح في تحقيقه اليوم، بعدما تحولت المقاومة إلى قوة ردع إقليمي. وعن إمكان توظيف الاحتجاجات في الشأن الحكومي، يرجح المرجع تشكيل حكومة إدارة أزمة، يرأسها شخصية غير الرئيس سعد الحريري، نظراً لعدم موافقة السعودية، على ترؤسه حكومة لا تطالب بنزع سلاح المقاومة، بالإضافة إلى أن الاحتجاجات التي شهدتها طرابلس مؤخراً، كشفت وهن تيار الحريري في المدينة، وعدم قدرته على ضبط الشارع الطرابلسي، الذي يدعي هذا التيار، بأنه يمثله، ولاريب أن أعمال العنف أسهمت أيضاً في إنكشاف ضعف الحريري، والتشكيك بمقدرته على إدارة شؤون البلاد الاجتماعية والأمنية في الظروف الراهنة الدقيقة، بالإضافة إلى السجالات المستمرة بينه وبين رئيس الجمهورية، وهذا الأمر ألمح إليه النائب وليد جنبلاط، يختم المرجع. وفي السياق، تكشف مصادر في قوى الثامن من آذار، أن تيار المستقبل، كان المحرك الأول للاحتجاجات المذكورة، بعدما وصل رئيس الحكومة المكلف إلى حائطٍ مسدود في عملية تأليف الحكومة المرتقبة، وكالعادة ينظر الحريري إلى طرابلس، كأرضٍ خصبةٍ، لصراعاته ومناواراته السياسية، فأوعز إلى أنصاره في الفيحاء بالتحرك، تحت عناوين مطلبية واجتماعية، وهذا ما حدث، وتزامن ذلك مع تحركات مماثلة في البقاع والجنوب وأقليم الخروب، أي في المناطق المحاذية، لمناطق وجود أنصار حزب الله، في محاولةٍ لدفهم إلى مواجهات ترتدي طابعاً مذهبياً، غير أن أنصار الحزب، كانوا خارج السمع، على حد قول المصادر. وتلفت المصادر إلى أن تحرك المستقبل في طرابلس، دفع بأتباع مختلف الأفرقاء المعادين للمقاومة ورئيس الجمهورية إلى الانضمام إلى الاحتجاجات، ثم السيطرة عليها بالكامل، وأبرز المشاركين هم : جماعات بهاء الحريري، اللواء أشرف ريفي، النائب السابق مصباح الأحدب، حزب سبعة، ومختلف التيارات التكفيرية وسواها التي تدور في الفلك التركي، كذلك مشاركة أنصار من القوات اللبنانية، التي دفعت المحتجين إلى التظاهر تحت منازل بعض النواب، والمطالبة باستقالتهم، وهذا الموقف يعبر عنه رئيس القوات سمير جعجع باستمرار، ودائماً حسب معلومات المصادر. وتختم المصادر بالقول : "لقد حاولت هذه القوى ومن يقف وراءها، استدراج أنصار الثنائي إلى مشكلة أمنية، لكنهم اصطدموا ببعضهم، والمتضرر الأكبر، جراء ذلك، هو الرئيس الحريري".
في المقابل، تسخّف مصادر قريبة من تيار المستقبل ورؤساء الحكومات السابقين، ما ورد آنفاً، وتسأل لماذا لا تكون الغاية من اندلاع أعمال الشغب والتخريب، هي دفع الرئيس الحريري إلى تأليف حكومة في شكلٍ سريع، كما يحلو للثنائي حزب الله والتيار الوطني الحر؟
وتعقيباً على كل ما ورد آنفاً، يؤكد مرجع كبير قريب من موقع القرار في حزب الله، أحقية الشارع الطربلسي برفع الحرمان والظلم عن مدينته، ولكن يحذر في الوقت عينه، من استغلال الساحة الطرابلسية، وزجها في الصراعات الإقليمية، خصوصاً في ضوء تفلت مجموعات بلا رأس واحدٍ، على حد تعبيره، تحظى بدعم أطراف أقليمية. ويكشف أن أحدى الدول الإقليمية جندت ودربت مجموعات شبابية، لإدارة التحركات، واستضافتهم على أراضيها في سبيل ذلك.
ويلفت أن عنصر التضامن الأساسي بين هذه القوى، وهو العداء للمقاومة وحلفائها، وهذا موجود منذ انطلاق الاحتجاجات في تشرين الأول 2019، حيث أقامت المجموعات التي تدور في الفلك التركي والخليجي، غرفة عمليات مشتركة في طرابلس.
ويشدد المرجع على ضرورة تنبه القوى الأمنية والجيش لخطورة الأوضاع ودقتها في الشمال قبل فوات الأوان، خصوصاً مع وجود احتمال تصعيد الحوادث الأمنية، وانفجار القنبلة الموقوتة، في حال انغماس اللاجئين السوريين والفلسطنيين في احتجاجات طرابلس القابلة للتطور، يختم المرجع.