مع كل تغيير اقليمي أو دولي، ومع تبدل كل إدارة أميركية، يندفع اللبنانيون لوضع بلدهم ساحة رسائل، معتقدين أن تبرعهم بمهمة إيصال الرسائل والتفاعل مع التطورات، سيمكّنهم من هزيمة خصومهم في الداخل والربح عليه والاستيلاء على السلطة او التحكم بالقرارات الداخلية، ولا تنفصل تجربة "الحريرية السياسية" عن هذا الإطار، حيث تتأثر قدرتها وقوتها بحسب الظروف الاقليمية والدولية، ونذكر في ما يلي بعض الشواهد التواريخية:
1- عام 1990، تأثر لبنان والعالم بالتغييرات غير المسبوقة التي حصلت بسقوط الاتحاد السوفياتي، فكان من سوء حظ اللبنانيين، دخول صدام حسين الى الكويت واحتلالها، الأمر الذي دفع الاميركيين الى استصدار قرارات من مجلس الأمن لتحرير الكويت، ثم إقامة تحالف عسكري هدفه تحرير الكويت وإخراج القوات العراقية بالقوة.
في تلك اللحظة المصيرية، انخرط الرئيس السوري حافظ الأسد في التحالف الدولي لتحرير الكويت، فكان أن أطلق الأميركيون يده في لبنان، وحصلت تسوية "الطائف" التي وزّعت السيطرة على لبنان بين سوريا والسعودية بواسطة رجلها الأقوى في لبنان رفيق الحريري. واستمرت السيطرة المشتركة تحت عنوان "الحريرية السياسية" حتى عام 2005، تاريخ اغتيال الحريري الأب.
2- عام 2011، وفي عزّ الاندفاعة الأميركية في المنطقة لدعم ما سمي "الربيع العربي"، والذي بدا واضحاً بأنه مشروع كان يهدف الى الاطاحة بحلفاء المملكة العربية السعودية من أركان "النظام الرسمي العربي"، وإحلال قوى الاسلام السياسي الاخواني مكانهم.
تفاعل لبنان داخلياً مع الموجة التي أطلقت عليها ايران اسم "الصحوة الاسلامية"، وتمّت إقالة سعد الحريري، الذي كان يعتبر الحليف الأقوى للسعودية في لبنان، باستقالة ثلث وزراء حكومته وهو على أهبة الدخول للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما.
3- عام 2017، وبعد تغيّر الإدارة الأميركية ورحيل أوباما ومجيء ترامب الذي أطلق استراتيجيته للمنطقة التي تعتمد على سياسة الضغوط القصوى على إيران وحلفائها، وإعطاء الضوء الأخضر للمملكة العربية السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان لتنفيذ أجندة طموحة في الداخل وفي المنطقة.
وكان من سوء حظ سعد الحريري، أن علاقته لم تكن جيدة، بل متوترة، مع القيادة الجديدة في المملكة، فكان أن تمّ استدعاؤه في تشرين االثاني من عام 2017، وإجباره على الاستقالة ببيان يتهم فيه ايران وحزب الله بالسيطرة على لبنان ومحاولة اغتياله، الأمر الذي كان من المفترض أن يؤدي الى مشاكل داخلية في لبنان، لولا حكمة الرئيس عون، الذي ماطل في قبول الاستقالة، لكسب الوقت للقيام بالاتصالات الدولية التي أدّت في النهاية الى الافراج عن الحريري وعودته الى لبنان.
- 17 تشرين الاول 2019:
اندلعت التظاهرات في لبنان على وقع التردي الاقتصادي والاجتماعي، الذي تفاقم على أثر تهديد وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو قبل أشهر بأيام صعبة. استغل الرئيس سعد الحريري التظاهرات ليستقيل وينقلب على التسوية الرئاسية التي أتت به الى السلطة، وهو الأمر المطلوب منه إقليمياً وأميركيًا.
اعتقد الحريري ان خروجه على وقع التظاهرات، سيعيده على حصان أبيض بعدما يتخلص من شريكه في التسوية جبران باسيل، لكن الأمور لم تجرِ كما يشتهي.
- اليوم:
بعد رحيل ترامب، يقف الحريري رئيسًا مكلّفاً غير قادر على تأليف حكومة ترضي الداخل والخارج معاً، فلا هو قادر على تخطي لاءات رئيس الجمهورية الشريك في التأليف، ولا هو قادر على السير بحكومة لا ترضي الكتل النيابية، ولا هو قادر على السير عكس إرادة القوى الاقليمية التي تضغط لتشكيل حكومة بدون حزب الله والتيار الوطني الحر.
وهكذا، انفجرت الرسائل الاقليمية الدموية في طرابلس، والتي من المفترض أنها ستدفع الجميع للذهاب الى تسوية، لا شكّ ستكون نتيجتها مشابهة لموازين القوى على الارض، فعادة ما تكون نتيجة المفاوضات أو التسويات مشابهة لموازين القوى على الارض، وهي ليست في صالح سعد الحريري بدون شك.