منذ بدء "القطيعة" بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، والتي انعكست "جمودًا كاملاً" على خطّ تأليف الحكومة، وقف الرجلان على "طرفي نقيض"، حتى قيل إنّ أحدهما ينتظر معرفة رأي الآخر من أي ملفّ أو استحقاق، ليحسم "تموْضُعَه" تلقائيًا في وضعيّة "الخصم" المُواجِه له.
لكنّ شيئًا ما بدا مختلفًا في مقاربة الاحتجاجات التي شهدتها مدينة طرابلس، الأسبوع الماضي، مع رصْد "توافقٍ ضمنّي"نادِر بين الرجليْن، ولو بقي محصورًا في الشكل من دون أن يرتقي إلى المضمون، على خطّ "تشخيص" حقيقة وجود استغلالٍ أو استثمارٍ سياسيّ للوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتأزّم، لغاياتٍ في نفس يعقوب.
إلا أنّ هذا "التشخيص" المُشترك لم ينسحب على التفاصيل، التي تكمن فيها الشياطين كما يُقال، وهو ما بدا جليًا عندما لم يتردّد كلّ فريقٍ في اتهام الآخر بلعب دورٍ "غير بريء" على خطّ احتجاجات طرابلس، ولو غابت الحجج المنطقيّة لمثل هذه الاتهامات التي بدت عشوائيّة في مكانٍ ما، سواء لغياب "المصلحة" لدى هذا الفريق، أو "الحيثيّة" لدى ذاك.
ولكن، أبعد من القراءة والتشخيص الآنيّ، ثمّة من يسأل، هل ينقلب السّحر على الساحر، فتتحوّل أحداث طرابلس، من حيث يدري "مفتعِلوها"، إن وُجِدوا، أو لا يدرون، إلى محطّة "التقاءٍ" بين "الخصميْن الشرسيْن"؟ وهل يحتاج عون والحريري إلى "دافعٍ" أكبر من أحداثٍ بهذا الحجم ليوحّدا الخطى ويقفزا فوق خلافاتٍ ونكاياتٍ لا تنتهي؟!.
مقاربة واحدة
للوهلة الأولى، وفي العناوين العريضة، وبعيدًا عن التفاصيل المحيطة، والتكهّنات الواسعة، كاد مضمون بيانات "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، وتصريحات ومواقف القياديّين والمسؤولين فيهما أو المحسوبين عليهما، من أحداث طرابلس، يكون واحدًا، في مشهدٍ لم يعد مألوفًا منذ فترة، وهو ربما دفع القيادتيْن إلى استعادة أدبيّات "المعركة" بينهما سريعًا.
كلاهما انطلق من "تفهُّمٍ موضوعيّ"، ربما يكون مزعومًا، للواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ المتفاقم، في كلّ لبنان، ولكن بشكلٍ خاص، في مدينة طرابلس، التي باتت مُصنَّفة على أنّها أفقر مدن ساحل المتوسط، بعدما أثقلت الأزمة المعيشية كاهل أبنائها، وجاء الإغلاق العام بسبب تفشّي فيروس كورونا، من دون أيّ تعويضاتٍ تُذكَر، ليزيد الطين بلّة.
وكلاهما أوحى بأنّ الاعتراض على مثل هذا الواقع "مبرَّر ومشروع"، كيف لا والأرقام التي تكشفها كلّ الدراسات الاقتصاديّة لم تعد "مُقلِقة" فحسب، بل مُرعِبة، من نسبة الفقر التي تجاوزت في كلّ لبنان حاجز الـ55 في المئة، إلى البطالة التي زادت عن الـ40 في المئة، والتضخّم الذي تخطّى بنجاح النسبة المئوية الكاملة، وتدهور سعر الصرف الذي قارب الـ500 في المئة.
لكن، كلاهما أيضًا لم يتردّد في اعتبار كلّ هذه الأرقام والمؤشّرات، على خطورتها، مجرّد "مطيّة" للاستثمار والاستغلال السياسيّ، وإن اختلفا على "تشخيص" طبيعة الاستهداف، بحيث اعتبر "المستقبل" أنّ هناك من يسعى إلى الإضرار بالحريري، عبر "إحراجه" في بيئته، لـ"إخراجه" من المبارزة الحكوميّة، في حين رأى "الوطني الحر" أنّ "العهد" هو المُستهدَف من جديد.
"المفاجأة الأكبر"
أما "المفاجأة الأكبر" على خطّ أحداث طرابلس الدراماتيكيّة والمتسارعة، فقد تكمن في "السجال الناريّ" الذي اندلع بين قيادتي "المستقبل" و"الوطني الحر"، على هامشها، حول الحصص الوزاريّة في الحكومة العتيدة، من ثلثٍ معطّلٍ وما شابه، والذي أوحى مجدّدًا لكثيرين، أنّ الشعب في وادٍ، وقادته المفترض بهم البحث عن حلولٍ لأزماته، في وادٍ آخر كلّيًا.
ولعلّ هذا السجال الذي أتى من خارج السياق المنطقيّ والطبيعيّ للأحداث، كما يرى البعض، بدّد كلّ الآمال والهواجس، في أن تكون أيّ مقاربةٍ مشتركة لاختراقٍ كالذي حدث في طرابلس، قادرة على إعادة خلط الأوراق الحكوميّة، وبالتالي بلورة "الأولويّات" من جديد، بعيدًا عن استعراضات القوّة الوهميّة، على طريقة "بيّي أقوى من بيّك"، و"لن أتنازل ولن أخضع".
وإذا كان هذا السجال جاء ترجمةً لما يعتقد كلّ فريقٍ أنّه "الهدف الحقيقيّ" للأحداث، عبر تبنّي "نظرية المؤامرة"، ولكن من خلال حصر "المؤامرة" بشخصه دون الآخرين، فإنّ الأوْلى بطرفي النزاع، وفق ما يرى الكثير من المراقبين، كان "تليين" شروطهم الحكوميّة، و"تطويعها" بملا يتلاقى مع المطالب الشعبيّة، التي قالوا إنّهم "يتفهّمونها"، أو بالحدّ الأدنى، القبول بالتفاوض المباشر، بعيدًا عن فتح الباب أمام وساطاتٍ بالجملة لا تتوخّى أكثر من كسر الجليد، وما تلبث أن تصطدم بالحائط المسدود.
وهناك من يشير، في هذا الإطار، إلى أنّ الاستغلال السياسيّ، إن حصل، لأحداث طرابلس، سواء عبر "طابور خامس" أو غيره، فإنّه لا يعني أنّ المطلوب "القفز" فوق الاحتجاجات كأنّها لم تكن، لأنّ أحدًا لا يستطيع "تخوين" كلّ المتظاهرين، طالما أنّ "صرختهم" مُحِقّة، والأهمّ من ذلك، أنّ مقومّات "الثورة الحقيقيّة" متوافرة في كلّ لحظة، بما أنّ المنظومة السياسية مصرّة على صمّ آذانها، وعدم التجاوب مع كلّ المبادرات، الداخليّة منها والخارجية.
ألف سبب وسبب!
ليست المرّة الأولى التي تنتفض فيها مدينة طرابلس، التي وُصِفت إبان الحراك الشعبي، رغم اختلاف النظرة إليه بين مختلف الأفرقاء، بأنّها "عروس الثورة"، بعدما قدّمت صورة بهيّة لطالما غابت عن تلك التي طبعها الإعلام من خلالها.
وليست المرّة الأولى التي يتّحِد فيها السياسيون في مواجهة تحرّكات الشارع، متذرّعين بوجود من "تسلّق" عليها، وأراد "استغلالها" سياسيًا لتحقيق مآربه الخاصّة، من دون اعتبارٍ لمصالح الناس الحقيقيّة وشجونهم الفعليّة.
وليست المرّة الأولى التي "تنحرف" فيها الاحتجاجات عن بوصلتها، فتتحوّل إلى "أعمال شغب"، وفق توصيف من يتمسّكون بـ"السلمية"، وإن كانوا أنفسهم من "يسخرون" في المقابل، من أيّ تحرّكات لا تنشد أكثر من "السلميّة".
وليست المرّة التي يتمّ فيها "تخوين" كلّ معترضٍ على أداء السلطة، بذريعة "أعمال شغب" من هنا، أو أهداف "معلومة مجهولة" من هناك، في استخفافٍ واستهانةٍ غير بريئة بأحقية مطالبه، ولو انطوت على "تعميمٍ" لا يستسيغه البعض.
لكن، أبعد من كلّ ما سبق، آن الأوان أيضًا لجرس الإنذار أن يُقرَع، ويصل إلى مسامع الجميع، فالسلميّة قد لا تصبح أكثر من "شعار" إذا ما استمرّ الواقع على حاله، في ضوء الاحتقان الاجتماعي الذي بات على وشك الانفجار، لألف سببٍ وسبب...