مرة أخرى يتأكد اللبنانيون أنه كان على مَن دفع حكومة حسان دياب الى الاستقالة كان عليه أن يتأكد من القدرة على إيجاد البديل قبل الاستقالة تلك، التي كان فيها كما بات واضحاً دفع لبنان الى «المجهول – المعلوم» ومساهمة في توفير ظروف تسهيل نجاح خطة بومبيو الإجراميّة التي أعدّت لتدمير لبنان لينال عبر هذا التدمير من المقاومة التي ينظمها ويقودها ويمارسها حزب الله.
فتعطيل السلطة التنفيذيّة وإحداث فراغ سياسي هو الركن الأول الذي وضعه بومبيو في خطته التي تشمل أيضاً الانهيار الاقتصادي والنقدي، وهو أيضاً ما يتأكد للبنانيين منه اليوم كما جاء على لسان مسؤول أميركيّ ضليع او متخصّص بشؤون لبنان وسورية منذ العام 2005، هو جيفري فيلتمان الذي وبكلّ وضوح وبعد اعترافه بفشل أميركا في سورية، نسب أسباب الانهيار الاقتصادي في لبنان الى اليد الأميركية التي شاء أصحابها الضغط على سورية عبر لبنان فدمّروا الاقتصاد اللبناني وجوّعوا الشعب فيه وكان هذا الانهيار الركن الآخر من أركان خطة بومبيو.
وكنا نحن مع آخرين في لبنان وفي الخارج من المهتمّين بالشأن اللبناني نعوّل على وقف تنفيذ الخطة الأميركية الإجرامية بحق لبنان، مع رحيل ترامب ووزير خارجيته بومبيو من السلطة، وان يلتقط اللبنانيون فرصة سنحت دولياً وإقليمياً للسير بعكس خطة بومبيو بدءاً بملء الشغور في موقع السلطة لتنفيذية والمسارعة الى تشكيل الحكومة ثم الانصراف الى معالجة الوضع الاقتصادي، إلا أنّ الأحداث الأمنية التي اتخذت من طرابلس مسرحاً لها جاءت معاكسة للتوقع، وظهرت وكما أنها تصبّ في خانة استمرار خطة بومبيو خاصة في ركنها المتعلق بالخلل الأمني المخطط للبنان، فهل القراءة هنا صحيحة؟
إنّ القول بانّ خطة بومبيو لا تزال قيد العمل رغم رحيل صاحبها قول فيه الكثير من المجازفة، وهو قول لا يرتكز على ما يكفيه من حجج منطقية، خاصة أنّ الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن وخلال الأيام العشرة الأولى من حكمه اتخذ من القرارات المتصلة بمنطقتنا ما يؤكد أنه عند تعهّده الانتخابي بمراجعة قرارات ترامب في ما يتعلق في المنطقة، حيث إنه جمّد شحنات الأسلحة الى السعودية والإمارات ليضغط عليهما في حرب اليمن وليتنصّل منها، وعيّن روبرت مالي مبعوثاً له إلى إيران ليرسل رسالة إيجابية لها بأنه مهتمّ بالعودة الأكيدة الى الاتفاق النووي معها، وأرسل الجنرال ماكينزي الى «إسرائيل» مباشرة ليؤنب كوخافي بعد مواقفه وتهديداته النارية الاستفزازية التي طالت بشكل غير مباشر أميركا ذاتها، وهي تهديدات جاءت في توقيت يُخشى معه من إفساد الخطة الأميركية الجديدة للتعامل مع ملفات المنطقة، وأخيراً كان الاتصال الهاتفي المطوّل بين بايدن والرئيس الفرنسي ماكرون، الذي حرك العلاقة الجامدة الجافة الأميركية الأوروبية بعد البرودة القاتلة التي دفع ترامب إليها وتسبّبت بفشل الخطة الفرنسية في لبنان حتى الآن.
وعليه نقول لأطراف الاشتباك في لبنان من اللبنانيين وغير اللبنانيين الذين لا يزالون يعملون او يتصرفون على أساس استمرار خطة بومبيو انهم يظلمون أنفسهم بالقدر الذي يؤذون لبنان، وعليهم أن يدركوا بأنّ الخطة التي فشلت في محاصرة المقاومة لإسقاطها عندما كان صاحبها يشرف عليها بنفسه ويعمل المستحيل لإنجاحها، أنّ هذه الخطة لن يقدّر لها النجاح بعد غياب صاحبها وعدم اكتراث خلفه بها. وهنا يطرح السؤال كيف نخرج من خطة بومبيو التدميرية؟
إنّ التصرف الفوري والضروري المطلوب بإلحاح للخروج عن مسار خطة بومبيو هو ملء الشغور الحكوميّ، وتشكيل حكومة بالمعايير الوطنيّة التي تحترم الدستور وما يُسمّى لدى الطائفيين «الميثاق» و «الميثاقية» والحرص على قبول من يريد المشاركة في الحكومة وفقاً لحجمه التمثيلي في مجلس النواب. وإذا كانت المبادرة الفرنسية طرحت معايير أخرى لتشكيل الحكومة فإنّ أربعة أشهر من التخبّط والانتظار والفشل كافية لتفهّم أصحاب المبادرة والعاملين عليها وبها، لتفهّمهم استحالة التطبيق في صيغتها الأساسية لأسباب داخلية أولاً ولأسباب خارجية ثانياً.
وعلى المهتمّين بالشأن ان يعلموا انه ليس المطلوب فقط تشكيل الحكومة، بل المطلوب تشكيل حكومة فاعلة وفاعليتها مقترنة بتحقق أربعة شروط حتمية الوجود، أولها احترام أحكام الدستور نصاً وروحاً خاصة صلاحيات المواقع الدستورية فيه معطوفة على الميثاق، ثانيها التناغم والانسجام بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وثالثاً قبول الأكثرية النيابية بها لتأمين ثقة وزانة لها، والشرط الأخير قدرة الحكومة على فكّ الحصار الأجنبي عن لبنان للبدء بمعالجة الانهيار الاقتصادي والنقدي وهو المدخل لأيّ معالجة.
بيد أنّ تحقق هذه الشروط وللأسف أمر ليس بالسهل، لا بل إنه يستعصي في ظلّ المقاربة الحاليّة لتشكيل الحكومة التي يُقال بأنها تجري وفقاً للمبادرة الفرنسية والتي توصف بأنها تقوم على قاعدة «حكومة غير سياسية مع حصرية صفة الاختصاص في وزرائها» وإفراط في تفسير دور رئيس الحكومة وإرادته المنفردة في اختيار الوزراء من غير تشاور او الوقوف على رأي من يفرض الدستور موافقته، هذا بالإضافة الى جزئيات وتفصيلات لا تمتّ الى الدستور ولا إلى الواقع اللبناني بصلة، ما يظهر بأنّ المبادرة أطلقت وفسّرت وترجمت بشكل وكأنّ مَن وراءها أو مَن ينفذها لا يعرف شيئاً عن الواقع اللبناني دستورياً وواقعياً، ما جعلها تفشل بشكل فاقع.
ولذلك وللخروج من المأزق القائم، وبانتظار الاتفاق على نظام سياسي جديد بات في ذهن الغالبية العظمى من اللبنانيين هدفاً لا يمكن التخلي عنه حتى ولو لم يجاهر البعض به، بانتظار ذلك وجب تشكيل الحكومة التي تستجيب للشروط الأربعة أعلاه في ظلّ الدستور القائم والأعراف الدستورية المستقرة وان تشكل حكومة إنقاذ تحكم خلال السنة المتبقية من عمر المجلس النيابي ويتمّ تشكيلها وفقاً للآلية التالية:
1 ـ يحدّد رئيس الحكومة المكلف مع رئيس الجمهورية خريطة التوزيع السياسي والطائفي للحكومة.
2 ـ يحدّد رئيس الحكومة المكلف أحجام التمثيل للكتل القابلة بالمشاركة في الحكومة ويستحصل على موافقتها عليه.
3 ـ يتلقى رئيس الحكومة المكلف من رؤساء الكتل النيابية الراغبة بالمشاركة في الحكم أسماء ممثليها على ان يقترح لكلّ مقعد 3 أسماء يختار رئيس الحكومة واحداً منها.
4 ـ يعرض رئيس الحكومة مسودّة التشكيل مع رئيس الجمهورية ويناقشها معه لتأمين التوازن الوطني والدستوري والطائفي.
5 ـ يكون القرار النهائي بالتشكيل توافقياً بين الرئيسين وبقبول من كتل الأكثرية النيابية.
نقترح هذا مع علمنا بصعوبة تطبيقه من قبل المعنيين في ظل ما بات يحكم العلاقة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وأطراف أخرى في الكتل النيابية، وهي علاقة لا بدّ من كسر جليدها عبر دعوة من رئيس الجمهورية الى اجتماع ثلاثي يجمعه الى رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة المكلف للانطلاق بالعمل بهذه الخطة التي نقترحها رغم علمنا بصعوبتها، لكنها تبقى محاولة أخيرة للسير على الجمر فإن لم تنجح فيكون اعتذار الرئيس المكلف أمراً لا بدّ منه تعقبه العودة الى القرار النيابي لاختيار البديل بشكل ينطوي على قدرة الشخصية المختارة بأن تستجيب للشروط الأربعة أعلاه.