لطالما شهدت اللحظات الأخيرة من نهايات الحروب الاستعمارية الفاشلة في تحقيق أهدافها، نتيجة المقاومة الضارية التي واجهت جيوشها، لطالما شهدت شدّ حبال وتجاذباً سياسياً بين حكومات العدوان، وقيادة المقاومة، حاولت خلالها قوى العدوان ان تحصل على مكاسب سياسية وجوائز تبرّر بها تراجعها عن مواصلة احتلالها وعدوانها وسحب قواتها المحتلة، بحيث لا تظهر أنها هُزمت وأخفقت، ونجحت في الحصول على ما يحفظ ماء وجهها، تغطي به على جرائمها التي ارتكبتها بحق الشعوب التي خضعت لاحتلالها.
لكن في معظم التجارب كانت قوى الاستعمار والاحتلال تفشل في الحصول على هذه الجوائز، نتيجة رفض قيادات حركات المقاومة التحررية تقديم أيّ تنازلات ومكافأة المستعمرين على احتلالهم والمجازر التي ارتكبوها، ويجبرون في نهاية المطاف على الرحيل تحت ضربات المقاومين وثبات قياداتهم على عدم منح المحتلين أيّ مكاسب عجزوا عن فرضها والحصول عليها بواسطة قوتهم العسكرية الغاشمة.
هذا ما حصل مع المستعمر الأميركي في فيتنام الجنوبية، عندما هرب آخر جندي من سايغون تحت وابل رصاص مقاومة الفيتكونغ...
وهذا ما حصل أيضا في الجزائر، عندما أجبرت جبهة التحرير الجزائرية المستعمر الفرنسي على الرحيل بلا قيد أو شرط بعد مائة وثلاثين عاماً على احتلال الجزائر ومحاولة فرنستها لكن من دون جدوى.
وهذا ما حصل أخيراً في لبنان عندما أجبرت المقاومة المسلحة والشعبية بعد ٢٢ عاماً، قوات الاحتلال الصهيوني على الخروج تحت جنح الظلام، بذلّ وهَوَان، من معظم الأراضي التي كانت تحتلها في الجنوب والبقاع الغربي بلا قيد أو شرط.. للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
وهذا ما حصل في العراق عام ٢٠١١ عندما خرجت قوات الاحتلال الأميركي في ليل مهزومة تحت ضربات المقاومة الشعبية والمسلحة، وبعد أن فشلت في فرض اتفاقية أمنية تبقي على قواعد لها في العراق.
اليوم تقف سورية على أعتاب قطف نتائج صمودها الأسطوري ومقاومتها البطولية، قيادة وجيشاً وشعباً، على مدى عشر سنوات، في مواجهة أشرس حرب إرهابية كونية قادتها أميركا، ومعها تحالف دولي، لإسقاط الدولة الوطنية السورية المستقلة، والسيطرة على سورية، وتحويلها إلى بلد تابع لأميركا.. تحاول واشنطن، التي بدأت تقرّ بفشلها في تحقيق أهدافها من هذه الحرب، أن تساوم القيادة السورية المقاومة، للحصول منها على مكاسب مقابل التوقف عن مواصلة حربها الإرهابية، ورفع الحصار الاقتصادي وسحب قواتها من الأرض السورية...
هذا الأمر أفصح عنه قبل أيام السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، المرشح لتولي الإشراف على الملف السوري في الإدارة الأميركية الجديدة، فهو أقرّ بفشل إسقاط الرئيس الأسد وإجباره على التراجع... مؤكداً في مقابلة مع جريدة "الشرق الأوسط": أنّ السياسة الأميركية في سورية، لإدارتي الرئيسين السابقين دونالد ترامب وباراك أوباما فشلت في تحقيق نتائج ملموسة إزاء أهداف واشنطن باستثناء هزيمة «داعش»، داعياً إلى اختبار مقاربة جديدة تقوم على اتخاذ الرئيس السوري بشار الأسد «خطوات ملموسة ومحدّدة وشفافة لا يمكن العودة عنها في شأن الإصلاح السياسي»، مقابل إقدام واشنطن على أمور بينها تخفيف العقوبات على دمشق. لكن فيلتمان، الذي فاوض الحكومة السورية قبل سنوات حول ملفات كثيرة، شكك في «استجابة الأسد لإنجاح هذه المقاربة".
من الواضح أنّ المسؤول الأميركي يقرّ منذ الآن وقبل ان يتسلم منصبه الجديد بأنّ محاولاته لابتزاز سورية لن تنجح، وانّ الرئيس بشار الأسد ليس من النوع الذي يرضخ للابتزاز، وهو الذي صمد صمود الأبطال في مواجهة الحرب الإرهابية الكونية لإسقاطه ومن خلاله إسقاط سورية في شباك التبعية والهيمنة الأميركية الصهيونية، وقدّم نموذجاً في الشجاعة والصلابة والمقاومة التي لا تهادن ولا تساوم على سيادة واستقلال سورية وثوابتها الوطنية والقومية، وأنّ ما فشلت في تحقيقه جيوش الإرهاب الأميركي الصهيوني بالقوة والحرب والتدمير والمجازر لن تستطيع أخذه بالضغط الاقتصادي والابتزاز.. وسورية، رغم معاناتها الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الحرب والحصار الأميركي الغربي، لن تسلم وستبقى صامدة وتقاوم بدعم من حلفائها الأوفياء، لا تخضع للمستعمرين...
ولا تزال كلمات الرئيس الأسد تصدح عندما أعلن في بدايات الحرب أنه لن يكون هناك إصلاح في سورية إلا إصلاح وطني، وأنّ سورية لن تسمح بالتدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، وأنّ أولوية الإصلاح الوطني تسير بالتوازي مع أولوية مكافحة الإرهاب والحفاظ على ثوابت سورية ووحدتها..
انطلاقاً من ذلك فإنّ إدارة العدوان في واشنطن ستكون عاجلاً ام آجلاً مواجهة حقيقة التسليم بالهزيمة، وعقم رهاناتها على ابتزاز القيادة السورية وإخضاعها للشروط الأميركية، عبر الضغط الاقتصادي، ومواصلة سرقة النفط السوري ودعم قوات "قسد" في ممارساتها التعسّفية ضدّ أبناء الجزيرة السورية وإعادة تنشيط هجمات إرهابيّي داعش، وكما واجهت سورية ومعها حلفاؤها جيوش الإرهاب على مدى السنوات الماضية وحققت الانتصارات، سوف تنتصر في الشوط الأخير من الحرب على المحتلّ الأميركي وأدواته، في معركة عضّ الأصابع.. وتضع الأميركي أمام الخيارات المرة، أما الانسحاب بلا قيد ولا شرط، أو التورّط في حرب استنزاف لا يستطيع تحمّل كلفتها في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالولايات المتحدة الأميركية.