لعلها الأيام الأدق التي تعيشها المنطقة منذ ما بعد التغيير الذي حصل في البيت الأبيض منذ تولي الديمقراطيين الحكم برئاسة جو بايدن، ولعلها أيضاً أكثر المراحل دقة لجهة استكشاف الوجهة الأميركية حيال ملفات المنطقة تحديداً لجهة معرفة الأولويات ومواقيت المباشرة بإسدال الستار عنها وما بقيت عليه الإدارة الجديدة من مقررات للإدارة السابقة وما سيحكم عليه بالنهايات. وهنا بيت القصيد حيث الأجواء نحو مسعى كبير من إدارة الديمقراطيين للتخلّي عن توجّهات الرئيس ترامب وتغيير كامل في السلوكيّات التي تعتبرها «انعزاليّة» لجهة العودة الى الانفتاح الذي ساد حكم الرئيس السابق باراك اوباما. وهنا يحضر الملف النووي الإيراني ومندرجات تطوير صيغته من عدمها، بغض النظر عن الرفض الإيراني حتى هذه اللحظة لأية عملية تعديل او اشراك لأية عناصر تفاوض.
برأي الديمقراطيين تكمن حماية «إسرائيل» كأولوية في تطبيق اسلوب مغاير من التعاطي مع إيران حيث تبقى الاولوية المحافظة على «إسرائيل» وأمنها القومي بحيث لا يصب الاتفاق او العودة اليه باتجاه مصلحة إيرانية «تأسيسية» إنما نحو محاولة «تعطيلية» تجدها الإدارة الحالية انجح من تلك التي تقطع الأوردة والعلاقات كما انتهج الجمهوريون فتأخذ إيران نحو خيارات أقسى لا يمكن العودة بعدها الى الوراء.. والمقصود:
أولاً: إن أي تفاهم مع الإيرانيين يعني منع إيران من امتلاك قنبلة نووية بوقت سريع والأرجح تجميد هذه الغاية، وبالتالي حماية «إسرائيل» على المدى المنظور، وربما لوقت غير بسيط يمنع إيران من تطوير القنبلة لأغراض عسكرية نتيجة رد فعل تجبر عليه بحال تعاظم تهديدها وتحديداً من جيرانها، والإمعان بالمزيد من العقوبات المالية والاقتصادية التي بدت أكثر تأثيراً ونجاحاً من الأعمال العسكرية حتى ان الرئيس السابق دونالد ترامب تباهي بكونه الرئيس الذي لم يخض حروباً او يورط بلاده فيها.
ثانياً: يعتبر الديمقراطيون أن الضغط على إيران هو تذكرة عبور باتجاه المزيد من التطرف بالموقف وإسراع بخلق المخاطر التي ستحيط بـ»إسرائيل» وحلفائها في المنطقة، لأن الضغط السياسي حيث التطبيع اليوم والإبقاء على اتفاقية «ابراهام» والضغط الأمني كذلك الاقتصادي على إيران وحلفائها يأخذها نحو «شرعنة» هذه الرغبة بل والإسراع فيها، الأمر الذي اتخذته إيران فوراً بعد اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة مؤخراً فيما اعتبرته رسالة قاسية باتجاه الملف فما كان منها إلا أن رفعت منسوب التخصيب الى أعلى درجاته متنصلة من أي قيد أو اتفاق.
تحاول الإدارة الديمقراطية تشريح المخاطر التي تتحدث «اسرائيل» عنها وهي وجودية بالنسبة اليها بالسير نحو ما يجعلها أكثر أمناً من دون أن تتورط الولايات المتحدة الأميركية بمواقف تلزمها بتنفيذ سياسات تحتم عليها المزيد من التصعيد في المنطقة في الوقت الذي يضع فيه بايدن ثقله لمكافحة الأوبئة وتعزيز النظام الصحي والأهم الضخ باتجاه الانشطة التكنولوجية والعلمية نحو مستقبل اوسع من التكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية التي تسمح بالتخلي عن موارد النفط والغاز وتأمين مستقبل يتماشى مع هذا التطور الذي لا يكلف الأميركيين المزيد من الحروب.
هذه السياسة التي تبدو مقلقة لـ»إسرائيل» هي مقلقة ايضا لحلفاء واشنطن في الخليج وهم في الجوار الإيراني ويعتبرون الحرب في اليمن احد أبرز الملفات التي تضغط باتجاه استهداف إيران لأمنهم القومي. فمسألة الخيار الانتقالي باتجاه سلطة يتقاسمها أصحاب النفوذ من الطرفين الإيراني والسعودي لم تكن مقبولة من السعودية لسنوات باعتبار اليمن الحديقة الخلفية حيث القبضة المحكمة عليها سياسياً وأمنياً لعقود في ما يعتبر تراجعاً لم يكن مأمولاً في حال عاودت العلاقات الأميركية الإيرانية نشاطها مؤثرة على هذا الملف؛ وبالتالي تنفيذ ما اعلنه الرئيس بايدن وقف دعمها للأعمال العسكرية في اليمن واعتباره ان على هذه الحرب ان تنتهي.
وفيما تبقى هذه البيانات مواقف ينتظر ان يتلقى الحلفاء هذه الأجندة بنوع من التقبل الا اذا كان التوجه نحو الضغط باتجاه حفظ المصالح قبل أي تطور من هذا النوع، وفيما سارعت قطر عبر وزير خارجيتها للتعبير عن رغبتها بالتعاون باتجاه مصالحة خليجية إيرانية، بدت هذه الخطوة رسالة للأفرقاء بالخليج للدخول بمرحلة جديدة مقبلة.
وعلى أن المفاوضات لن تكون سلسة على الرغم من كشف النيات الأميركية والإيرانية بتعيين روبرت مالي المقبول إيرانياً مبعوثاً للملف الشاق رغم الاعتراضات والترحيب الإيراني ببدء المفاوضات وتلقف النيات الأميركية بضرورة إنهاء الحرب في اليمن، تتحضر المنطقة وتحديداً ساحات النفوذ والمصالح الإيرانية كالعراق وسورية ولبنان لمرحلة المحادثات على صفيح ساخن، ليست الاضطرابات الأمنية في كل من البلاد المذكورة مؤخراً سوى ضغط من الأجهزة المتضررة من دول ومنظمات تكفيرية للتنبيه لمصالحهم في هذه الدول لئلا تذهب الأمور نحو أي تطور يتناسى هذه المصالح ويسمح بتفوق إيراني فيها في الوقت الذي تنتظر فيه إيران رفع العقوبات المالية والاقتصادية عنها قبل أي تفاوض، وما يعنيه ذلك عن حلفائها من المنظمات في المنطقة حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وتحسين شروطهم وحضورهم السياسي، فغنه ومما لا شك فيه سيعتبر الإنجاز الإيراني الأهم الذي سيسمح بفتح رئة تتنفس منها طهران وتتحرّك اكثر إقليمياً ودولياً تحديداً أوروبياً بحيث يمكنها استعادة الثقة والتبادل التجاري والاقتصادي بشكل أوسع وأسرع.
ومن هنا فإن ارتفاع منسوب القلق من المتضررين وتحديداً «اسرائيل» سيفتح المجال باتجاه تطورات أمنية وعسكرية متعددة الأشكال والأوجه، لكي لا يأخذ أي تطور من هذا النوع مداه الكامل فيقتصر على الانفتاح الاقتصادي من دون السماح لإنجازات سياسية تعطي إيران المزيد من التقدم الامني في المنطقة وهذا ما يجعل المنطقة مقبلة على مرحلة من التفاوض المضني على صفيح ساخن تفرضه مصالح المتضررين وحساباتهم مما قد يصعب المهمة على المعنيين أكثر.