قد يكون تفاهم مار مخايل بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" نجح في تجنيب لبنان شرور الفتنة والانقسام، وحماه من اعتداءات الخارج، فردع إسرائيل وصدّ الإرهاب، إلا أنّه، في الوقت نفسه، لم ينجح في مشروع بناء الدولة وسيادة القانون.
ما سَبَق لا يعبّر عن قراءة تحليليّة موضوعيّة، أو "محايدة"، لمآل التفاهم بين "الحزب" و"التيار" بعد خمسة عشر عامًا على إبرامه، وهو بالتأكيد ليس محاولة "حرتقة" على التفاهم من قِبَل أحد خصوم ركنيْه، على كثرتهم وتفاوت أهدافهم.
إنّه ببساطة "تشخيصٌ" لحال التفاهم من جانب "التيار الوطنيّ الحرّ" نفسه، في مراجعةٍ نقديّةٍ "نادرة"، حضرت، بحرفيّتها، في بيان مجلسه السياسي إثر اجتماعه الدوريّ خلال عطلة نهاية الأسبوع، وأثارت الكثير من الالتباسات والتكهّنات.
فأيّ رسالةٍ أراد "التيار" إيصالها إلى حليفه وشريكه، "حزب الله"؟ هل قرّر "الاستغناء" عن التفاهم، بعدما اكتشف ربّما أنّه لم يَعُد "صالحًا" للمعركة، أم أنّها رسالة "عتب"، في ضوء المتغيّرات السياسيّة، التي لم يرقَ "الحزب" فيها لمستوى تطلّعات القيادة "العونيّة"؟.
رسالة "عتب"
في بيانه، اعتبر المجلس السياسي لـ"التيار الوطني الحر" أنّ الحاجة إلى "تفاهم مار مخايل" تنتفي، إذا لم ينجح الملتزمون به في معركة بناء الدولة وانتصار اللبنانيين الشرفاء على حلف الفاسدين المدمّر لأي مقاومة أو نضال.
ومع أنّ هذا البند ورد في مَعْرض الدعوة إلى "تطوير" التفاهم باتجاه فتح آفاق وآمال جديدة أمام اللبنانيين "كشرطٍ لبقاء جدواه"، إلا أنّ كثيرين قرأوا خلفه "رسالة سلبية"، بل مؤشّرًا إلى أنّ "التيار" يمهّدلـ "الاستغناء" عن التفاهم بالمُطلَق.
وقد لا يكون مثل هذا التفسير بعيدًا جدًا عن الواقع، إذ يؤكّد عارفون أنّ قيادة "التيار" أرادت إيصال رسائل "عتب" شديدة اللهجة إلى قيادة "حزب الله"، خصوصًا أنّ "عونيّين" كُثُرًا بدأوا يرفعون الصوت ضدّ تفاهمٍ تحوّل، بنظرهم، إلى "عبء" من دون أيّ جدوى.
ولعلّه ليس خافيًا على أحد أنّ الامتعاض "العونيّ" من أداء "حزب الله" بلغ ذروته على خلفيّة الملفّ الحكوميّ، وأنّ "التيار" ليس راضيًا بالمُطلَق عن طريقة تعاطي "الحزب" معه، كما أنّه يستغرب محاولة "الحزب" الوقوف على "الحياد" بينه وبين خصمهما المشترك، رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، لحدّ الحديث عن "وساطة" يقودها لتقريب وجهات النظر.
وفي حين يذهب بعض "العونيّين" أبعد من ذلك بتحميل "حزب الله" مسؤولية المأزق الحكوميّ بالدرجة الأولى، بإصراره على تسمية الحريري لرئاسة الحكومة، رغم كلّ مناشدات رئيس الجمهورية، الذي اضطر لمخاطبة النواب قبل الاستشارات لثنيهم عن الخطوة، يسأل آخرون عن "ثمار" التفاهم الذي لم يجلب لـ"التيار" سوى العقوبات لرئيسه الوزير السابق جبران باسيل.
إلى التطوير دُر
يوحي "العونيّون" أنّهم بوارد "التخلّي" عن التفاهم مع "حزب الله". بالحدّ الأدنى، هذا ما أوحى به بيان مجلسهم السياسيّ، كما يؤكّده جمهورهم "الافتراضيّ" الذي تخلّى عن الكثير من قواعد "المهادنة" التي اعتمدها لسنواتٍ طويلة مع "حزب الله"، حتى على مستوى المواقف "المبدئيّة"، ولم يعد يبتعد عنه العديد من النواب والقياديّين، متستّرين خلف "دبلوماسيّة" لا طائل منها.
لكن، رغم كلّ ما سبق، لا تزال أوساط "التيار الوطني الحر" ترفض أيّ حديثٍ عن نوايا مُضمَرة بإنهاء التفاهم، وإلحاقه بتفاهماتٍ أخرى تخلّى عنها "العونيّون" خلال فترةٍ وجيزة، قد يكون أبرزها "تفاهم معراب" مع "القوات اللبنانية". وتشدّد هذه الأوساط على أنّ العلاقة مع "حزب الله" مختلفة، وقد أثبتت على مدى سنوات نجاعتها، إلا أنّها تحتاج لديناميكيّة جديدة للصمود.
وتشير هذه الأوساط إلى أنّ "الحزب" و"التيار" متفِقان أصلاً على أنّ "التفاهم" بصيغته الحاليّة لم يعد "صالحًا"، وأنّ المطلوب "تطويره" ليواكب المرحلة الحاليّة، والمتغيّرات التي طرأت خلال خمسة عشر عامًا. لكنّها، في الوقت نفسه، لا تنكر وجود "تراكماتٍ" على خطّ الاختلافات التي لم تتمّ معالجتها بين الجانبيْن، هي سابقةٌ للخلاف الحكوميّ الآنيّ، وترتبط بالدرجة الأولى ببعض "الأولويّات" لدى "الحزب"، والتي أطاحت مثلًا بمعركة مكافحة الفساد، استنادًا إلى "خطوط حمراء" تتعلّق ببعض حلفائه.
من جانبه، لا يبدو "حزب الله" بوارد "التفريط" بالتحالف بأيّ شكلٍ من الأشكال، ويقول العارفون بأدبيّاته إنّ قيادته، وإن كانت تتفهّم هواجس واعتبارات "التيار"، إلا أنّها ترفض أيّ تفكيرٍ بطيّ صفحة التفاهم، لأسبابٍ واعتباراتٍ كثيرة، أولها ربما أنّ ما قدّمه "التيار" للحزب، من "غطاءٍ" على الساحة المسيحيّة، لا يستطيع غيره أن يقدمّه له، لا سيّما وأنّ التحالف مع القوة المسيحية الثانية، أي "القوات اللبنانية"، من "سابع المستحيلات".
ويؤكد المقرّبون من "الحزب" أن فكرة تطوير "التفاهم" لم تكن يومًا مرفوضة أو منبوذة من جانب القيادة، بل إنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله تحدّث عن هذه الفكرة صراحةً في خطابٍ له بعد فرض العقوبات على الوزير باسيل، وهو جاهزٌ للمضيّ قدمًا في هذا المشروع بما يتيح "تحصين" التفاهم، لا تعريضه لمخاطر جديدة، علمًا أنّ ما كان يقوله "الحزب" عن "دَيْن إلى يوم الدين" لا يزال ساريًا، ولو أنّ بعض المحسوبين عليه يردّدون بأنّه سدّد هذا الديْن كاملًا، ولم يعد في ذمّته شيء.
"انقلاب" في المقاربة
ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" مصاعب ومطبّات، بل إنّ عبارة "عدم اهتزاز" التفاهم، رغم كلّ ما يحدق به من تحدّيات، قد تكون تردّدت، أكثر بكثير من "متانة" التحالف، وحصانته، وقوّته، وإلى آخره من النعوت والأوصاف.
لكنّها ربما تكون المرّة الأولى التي تمرّ فيها ذكرى التفاهم، من دون "احتفالاتٍ" مُبالَغٍ بها، أو بالحدّ الأدنى، حلقاتٍ حواريّة وتلفزيونيّة، تمضي في "تقديس" التفاهم، لحدّ الاعتقاد أنّه "المُنقِذ"، ولولاهلأصبح لبنان بأكمله "في خبر كان".
وهي بالتأكيد المرّة الأولى التي يتمّ فيها إحياء الذكرى بخطابٍ "نقديّ" مغاير، يوحي للمرّة الأولى بشعور أحد طرفي التفاهم، على الأقلّ، بأنّ هناك "خللًا جدّيًا"، وأنّ المصلحة من التفاهم تكاد تنتفي، ولو اختلفت المعايير والاعتبارات.
وإذا كان من الطبيعي أن يُعاد النظر بتفاهم أصبح عمره 15 عامًا، كانت حافلة بالمتغيّرات السياسيّة على مختلف الصعد، فقد يكون من المنطقيّ أيضًا أن يلتفت "الحزب" و"التيار"، ومعهما سائر أركان الطبقة السياسيّة، إلى المتغيّرات التي حلّت بلبنان ككلّ، وهي متغيّرات كفيلة وحدها بإحداث "انقلابٍ كامل" في المقاربة...