فيما يواصل رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري جولاته الخارجيّة، التي يتعمّد القريبون منه إبقاءها في دائرة "الغموض والضبابيّة"، رُصِدت أجواء "حراك دبلوماسيّ" أكثر من لافِت في الداخل اللبنانيّ، وبعض العواصم الإقليميّة، بما يشي بـ"تغيّر نوعي" في مقاربة الأزمة اللبنانيّة، من جانب العديد من الدول الصديقة والشقيقة.
فبعدما أعلن الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون عن زيارةٍ جديدةٍ مرتقبةٍ له إلى لبنان، وانتشرت بالتوازي معلوماتٌ غير رسميّة عن مبعوثٍ رئاسيّ فرنسيّ سيصل إلى لبنان قبل نهاية الأسبوع، ضمن مساعي إعادة "إحياء" المبادرة الفرنسيّة، وإخراجها من كبوتها التي طالت، بدأت بوادر "مرونة" خليجيّة بالظهور في أكثر من مكان.
وفي وقتٍ فُسِّر هذا الحراك في بعض الأوساط على أنّه "إعادة تموْضُعٍ"، إن جاز التعبير، بما يشكّل قطيعة مع سياسة "الانكفاء" التي اعتُمِدت خليجيًّا إزاء لبنان لأشهرٍ خَلَت، برز "تزامنه" مع الحراك الدوليّ المستجدّ الذي جدّده الفرنسيّون مع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، خلفًا للرئيس دونالد ترامب.
وإذا كانت علامات استفهام كثيرة تُطرَح، إزاء كلّ ما سبق، عن دلالات "الانفتاح" العربيّ والخليجيّ، وعن مغازي "الاستنفار" الدوليّ، وتبعاته على الواقع اللبنانيّ شبه الجامد، فإنّ سؤالاً واحداً لا يزال مهيمنًا على كلّ ما عداه، ويتلخّص بكيفية "تقريش" الحِراك العربيّ والدوليّ حكوميًا، أو باختصار، هل اقتربت الحكومة؟
ولّى زمن الانكفاء
قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ الخليج صرف النظر عن لبنان، وأزاله من قائمة "الأولويات" طيلة المرحلة الماضية، لاعتباراتٍ وأسبابٍ عديدة، يتقدّمها "الامتعاض" من الأداء الرسميّ اللبنانيّ في مرحلةٍ من المراحل، فضلاً عن بعض المواقف والتصريحات التي خرجت عن بعض الأحزاب، والتي اعتُبِرت مسيئة لعلاقات الصداقة والأخوّة.
ومع أنّ هناك من استبشر خيرًا بعد "الليونة" التي أظهرت بعض دول الخليج في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، إلا أنّ الخرق الذي سُجِّل على هذا الخط لم يتجاوز الطابع "الإنسانيّ" بحسب ما أظهرت الأحداث، وهو بهذا المعنى، لم يتخطّ مقتضيات "التضامن الأخلاقيّ" مع الشعب اللبنانيّ، بعد "الكارثة" التي حلّت به.
وإذا كان هذا "الانكفاء"، وفق ما يرى كثيرون، هو الذي أفسح في المجال أمام أدوار "توسُّعيّة" لبعض القوى الإقليميّة الأخرى، على غرار فرنسا مثلاً، فإنّ بوادر عودةٍ عن الانكفاء بدأت تُلاحَظ في الأيام القليلة الماضية، لعلّ أبرزها الزيارة التي قام بها نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن ال ثاني إلى لبنان.
ومع أنّ هذه الزيارة خالفت توقّعات، أو ربما أمنيات، بعض اللبنانيّين الذين كانوا يمنّون النفس بأن تُفرِز "مبادرة" شبيهة بتلك التي أطلقتها الدوحة بعيد أحداث السابع من أيار 2008، حين رعت حواراً توصّل إلى "تسوية"، ولو آنيّة، للأزمة، إلا أنّها فتحت على الأقلّ كوّة في جدار الأزمة، علمًا أنّ الضيف القطريّ حرص على توجيه الرسائل الإيجابيّة، من قبيل أنّ هناك اتصالات تجريها دولة قطر مع كل الدول التي لها علاقة بالملف اللبناني، للدفع في اتجاه تشكيل الحكومة.
ماذا عن "الفيتو" السعوديّ؟
تزامنًا مع الحراك القطريّ المُستجِدّ، سُجّل آخر سعوديّ هو الأول من نوعه منذ فترةٍ طويلة، تمثّل بعودة السفير السعوديّ وليد البخاري إلى "نشاطه" بعد "إجازةٍ" طويلة، وربما مفتوحة، أعطيت الكثير من التفسيرات والتأويلات التي لم تحاول الرياض "تبديدها" أصلاً، حول أنّ خروجه من الساحة اللبنانية هو "انكفاء" للمملكة بالكامل، علمًا أنّ مغادرته تزامنت أيضًا مع انتهاء فترة عمل السفير الإماراتي، من دون تعيين أيّ "بديلٍ" عنه.
وإذا كان السفير السعودي استهلّ نشاطه بلقاءٍ لافِتٍ أيضًا مع السفير الروسي في لبنان، ألكسندر روداكوف، فإنّ المعلومات المتوافرة أكّدت أنّ هذا اللقاء لن يكون "يتيمًا"، ولا معزولاً في الزمان والمكان، إذ إنّ دارة البخاري ستحتضن في الأيام المقبلة حراكًا دبلوماسيًا نشطًا، سيشمل العديد من السفراء العرب والأجانب، وعلى رأسهم السفيرتان الفرنسيّة والأميركيّة، ولو أنّ معظم المطّلعين على هذه اللقاءات، نفت علمها بأهداف الحِراك، الذي يبقى، حتى إثبات العكس، محصورًا بالطابع الاستشاريّ والاستكشافيّ.
لكن، في مقابل "الغموض البنّاء" الذي ما زال يطبع تحرّك البخاري، ثمّة من يضعه في دائرة الحراك الخارجيّ الأوسَع الحاصل، خصوصًا في ضوء ما يُحكى عن زيارةٍ مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، سيحضر الملفّ اللبنانيّ ضيفًا أساسيًّا على خطّها، خصوصًا أنّ هناك من لا يزال يصرّ على اعتبار السبب الحقيقيّ لعدم تشكيل حكومة هو وجود "فيتو" سعوديّ على أيّ حكومة يرأسها الحريري ويشارك فيها "حزب الله"، ويرفض إعطاء مثل هذه الحكومة أيّ غطاء ومباركة.
إلا أنّ المعنيّين ينفون مثل هذه الفرضيّات، ويشدّدون على أنّ السعودية حين انسحبت من المشهد اللبنانيّ،لم تضع أيّ "فيتو"، بل تركت اللبنانيّين يتدبّرون أمرهم بنفسهم، وهي في حال قرّرت العودة اليوم، بناءً على تعهّداتٍ من هنا، أو تمنّياتٍ من هناك، فهي لن تحلّ مكان اللبنانيّين، الذين سيبقى عليهم "الحِمل الأكبر"، عملاً بالحدّ الأدنى بالمقولة الشهيرة التي وجّهها المسؤولون الفرنسيّون للقادة اللبنانيّين، وقوامها "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"، وهو ما لم يتحقّق لغاية تاريخه، وفق ما يؤكّد العارفون.
"غرقى يتمسّكون بقشّة"
كما يُقال، يتمسّك اللبنانيون بـ"قشّة" إذا ما شعروا أنّ بإمكانها تحقيق ما يعجزون عن تحقيقه بمفردها. فعلوا هذا الأمر سابقًا حين نجح قادة الخارج في مهمّة جَمعِهم "المستحيلة"، سواء في الطائف أو في الدوحة، أو حتى في بيروت، لكن في "عرين" الفرنسيّين.
لا مانع لديهم من إعادة الكرّة. ها هم قبل زيارة وزير الخارجيّة القطريّ، رفعوا التوقعات إلى الحدّ الأقصى، بتوقّع مبادرةٍ قطريّةٍ جديدة. وحين نفى الوزير وجود مثل هذه المبادرة، تمسّكوا ببضع كلماتٍ وردت في مؤتمره الصحافيّ، كقوله إنّ "اللبنانيّين مرحَّبٌ بهم في الدوحة"، ولو أنّه أضاف أنّ "لا توجّه" لاستضافة حوارٍ لبنانيّ في الوقت الحاليّ.
وبانتظار الخارج، "يعاند" اللبنانيون في الداخل. هذا يرفض "وساطة" ذاك، وهذا يطالب بـ"اعتذار" حتى يقوم بواجباته، فيما ذاك يصرّ على أنّ الكرة ليست في ملعبه، وأنّ "التنازل" مطلوبٌ من غيره، وكلّهم يضعون "شروطًا مسبقة" للحوار كفيلة بإفشاله.
وفيما يُشهِر الجميع سلاح "المقاطعة" في وجه بعضهم بعضًا، وكأنّ البلاد تعيش مثل هذا "الترف"، لا يتردّد اللبنانيون بتطبيق عكس مقولة "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"، بالمساعدة على إفشال أيّ مبادرة، وإفراغها من مضمونها، عبر تكريس نظام المحاصصة والفساد، الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه!.