أكد السفير اللبناني لدى الكرسي الرسولي فريد الياس الخازن، في حديث صحافي أن "لا مواقف مرتجلة في الفاتيكان. كلمة البابا السنوية في مطلع العام الجديد يتم الإعداد لها ووضع محاورها قبل وقت من اللقاء العام، وأي تعديلات يتم ادخالها إذا دعت الحاجة. هذه السنة تأجل اللقاء أسبوعين بسبب وعكة صحية ألمت بالبابا",
واوضح الخازن ان "ما جاء في كلمة الحبر الأعظم حول لبنان هذا العام غير معهود، إن لجهة المضمون أو الإسهاب وأيضا بالمقارنة مع ما ورد حول دول أُخرى تواجه أوضاعا مأزومة، لاسيما وأن كلام البابا جاء بعد أسابيع من رسالة هامة وجهها إلى اللبنانيين. هذا فضلا عن زيارة الكاردينال بارولين، أمين سر الدولة، ممثلا البابا، إلى لبنان في أيلول الماضي. تجاوز الكلام البابوي العناوين العامة حول لبنان ليصل إلى التفصيل الواضح والصريح".
أضاف: "تناولت كلمة البابا التحديات التي يواجهها العالم، ومنها الوباء والبيئة والفقر والنزوح وحقوق الإنسان والنزاعات المسلحة. وفي ما يخص الشرق الأوسط، تطرق البابا إلى أوضاع المنطقة، وتحديدا في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان، مشددا على الجوانب الإنسانية لتداعيات الحروب والأزمات، بالإضافة إلى النزاع العربي-الإسرائيلي. إلا أن الحيز الأكبر في الخطاب خصصه الحبر الأعظم للبنان. وفي قراءة موجزة، يمكن الإشارة إلى أربع ركائز مترابطة لكلام البابا عن لبنان: أولا، استقرار البلاد، والالتزام المطلوب لهذه الغاية وطنيا ودوليا. ثانيا، الرابط بين الاستقرار والهوية لجهة التعددية والتنوع والتسامح، وما للمسيحيين من دور محوري في النسيج التاريخي والاجتماعي المؤسس للبنان، فضلا عن تداعيات هذا الواقع على الشرق الأوسط، محيـط لبنان الإقليمي. ثالثا، الأزمات والتحديات التي يواجهها لبنان: الاقتصادية والاجـتماعية وسواها، والتحذير من "الإفلاس" الذي قد يولد الأصولية أي التطرف. ورابعا، مقاربة الأزمات الضاغطة بمسؤولية وعدالة وشفافية، بعيدا من المصالح الشخصية للقيادات السياسية والروحية، من أجل الخير العام. وتجدر الإشارة إلى مسألة اللاجئين السوريين والفلسطينيين، والدعوة إلى مقاربة وجودهم في لبنان بما يحفظ التوازنات الداخلية، وبالتالي الاستقرار والهوية وخصوصية أبعادها".
ولفت الى ان "المصطلحات الواردة في كلام البابا لافتة لجهة ارتباطها بالأوضاع الراهنة: الإصلاح، العدالة، المسؤولية، الشفافية، الهوية، وتفادي الإفلاس والأصولية، تداخل الواقع اللبناني مع الأوضاع الإقليمية... بكلام آخر، انه لبنان العيش المشترك الذي قصده البابا ودوره المميز، فيحمل رسالة الحرية والتعددية له ولسواه. وهذا ما يجعل من لبنان أكثر من بلد، حسب ما جاء في رسالة البابا القديس يوحنا بولس الثاني منذ أكثر من ثلاثة عقود".
وعن تطور العلاقة بين الكرسي الرسولي والإدارة الجديدة في الولايات المتحدة، لفت السفير اللبناني الى ان "العلاقة في الآونة الأخيرة بين أميركا والفاتيكان توترت اثر زيارة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو إلى روما واتخاذه مواقف مناوئة لمسار العلاقات بين الكرسي الرسولي والصين، على رغم أنها مسألة راعوية غير مرتبطة بالشأن السياسي. واقتصرت لقاءات بومبيو على المسؤولين الكبار في الفاتيكان ولم يستقبل البابا الوزير الأميركي، لا سيما أن الزيارة أتت أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية. مع الرئيس بايدن والإدارة الجديدة، ستكون العلاقات مع الفاتيكان أفضل حالا مما كانت عليه في زمن ترامب. وبين الجهتين الكثير من المساحات المشتركة في السياسة الدولية، أبرزها: المقاربة المتعددة الأطراف (Multilateral)، وخصوصا لجهة التعاون مع المنظمات الدولية، إضافة إلى مواجهة التحديات البيئية والصحية، وإيلاء الاهتمام الجدي بالازمات المرتبطة بالهجرة والنزوح والفقر وحقوق الإنسان، والمرونة في التعاطي مع الأزمات داخل الدول وفي ما بينها، بعيدا عن الصدام غير المجدي. وكذلك أيضا في ما يخص تفعيل التقارب مع الاتحاد الاوروبي واتخاذ الإجراءات للحد من التسلح، وفي مقدمها السلاح النووي، كما يدعو الفاتيكان منذ زمن طويل".
أضاف: "هذه الاعتبارات تسهل التواصل بين أميركا والفاتيكان في السياسة الخارجية. وتجدر الإشارة أن البابا فرنسيس والرئيس بايدن سبق أن التقيا في واشنطن والفاتيكان وتعاونا في مسائل تخص أميركا اللاتينية عندما كان بايدن نائبا للرئيس، وهو ملم بالسياسة الخارجية، خلافا لسلفه. وكان بايدن افتتح عهده بقداس في كنيسة كاثوليكية في واشنطن بحضور مسؤولين كبار. واللافت أن بايدن، الملتزم دينيا، وهو الرئيس الكاثوليكي الثاني في أميركا، لم يكن انتماؤه الديني مصدر سجال أو اعتراض، خلافا لما حصل مع انتخاب الرئيس كينيدي في مطلع ستينات القرن الماضي. اما في الشأن الاجتماعي فمواقف بايدن ليبرالية ولا تلاقي دعم المحافظين في أوساط الكنيسة الكاثوليكية في أميركا، وتحديدا بعض أعضاء مجلس الأساقفة. هذا مع العلم أن بايدن نال عددا يزيد على النصف بقليل من أصوات الكاثوليك في الانتخابات الرئاسية. الانتماء الديني للرئيس الأميركي غير مرتبط بالقرار السياسي ومصالح الدولة العليا، وان كانت منطلقات بايدن المبدئية والأخلاقية في عمله وسلوكه تحكمها ثوابت تتلاقى مع توجهات الفاتيكان ومقاربته للشأن العام، خلافا لما كانت عليه الحال مع الرئيس ترامب وسياسته الخارجية الاستنسابية والمتقلبة. باختصار، ديبلوماسية الفاتيكان المرنة والمنفتحة والهادئة هي أكثر تناغما مع توجهات بايدن والإدارة الجديدة".
وتطرق الخازن الى الدور الذي تقوم به السفارة اللبنانية لدى الكرسي الرسولي، فقال: "السفارة على تواصل دائم مع المعنيين في الشأن اللبناني في دوائر الكرسي الرسولي وفي المجامع الرسولية المتخصصة والمؤسسات التابعة للفاتيكان التي تعمل من أجل تعزيز الحوار بين الأديان وفي المجالات الخيرية والإنسانية. بإيجاز، العلاقات مع الفاتيكان وثيقة ، يسودها التعاون والانفتاح والصدق في التعاطي. قداسة البابا يتابع الأوضاع اللبنانية ولا يوفر فرصة لتقديم العون، وهو مطلع على أوضاع البلاد السياسية والدينية عبر العمل الدؤوب الذي تقوم به دوائر الفاتيكان المعنية. ويبقى لبنان النموذج المرتجى في العيش المشترك بنظر الكرسي الرسولي، على رغم التحديات والصعاب".
وردا على سؤال حول كيفية تعامل الكرسي الرسولي مع المبادرات التي تطلق من لبنان، قال: "يتعامل الفاتيكان مع المبادرات والمواقف المعلنة في لبنان، ولاسيما منها تلك الصادرة في الآونة الأخيرة عن غبطة البطريرك الراعي، بجدية وانفتاح، وان لم يصدر موقف منها. وتتم مقاربة الأوضاع اللبنانية بحرص شديد على المصلحة العامة بهدف الوصول إلى حلول عملية للأزمات المعقدة. والفاتيكان داعم للمبادرة الفرنسية، أو أي مبادرة قد تساهم في انتشال البلاد من الأوضاع المتردية التي يعاني منها اللبنانيون، أفرادا وجماعات. ولن يوفر جهدا لهذه الغاية في المجالات كافة وبكل الوسائل المتاحة".