خصّص رئيس الحُكومة المُكلّف سعد الحريري الكلمة التي ألقاها في الذكرى السادسة عشرة لإستشهاد رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، للدفاع عن "الحريريّة السياسيّة"، مُوجّهًا إنتقادات قاسية بوجه "التيّار الوطني الحُرّ من دون أن يُسمّيه، ولتشريح مضمون 16 لقاء عقده مع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون منذ تكليفه تشكيل الحُكومة الجديدة، إضافة إلى توجيهه رسالة معنويّة شعبويّة عندما تناول حُكم"المحكمة الدَوليّة" قائلاً باللغة العاميّة اللبنانيّة إنّ الحُكم بحق سليم عيّاش "بدّو يتنفّذ" وعيّاش "بدّو يتسلّم"، رافضًا الإستمرار بسياسة الإغتيالات منذ إستهداف الوزير السابق مروان حمادة وُصولاً إلى إغتيال الناشط لقمان سليم. فما هي الإنعكاسات المُتوقّعة لهذا الخُطاب العالي السقف من حيث المَضمون، ولوّ الهادئ نسبيًا من حيث الشكل؟.
لا شكّ أنّ النقطة الأبرز في خطاب الحريري الذي كشف أجزاء مُهمّة من مضامين لقاءاته مع العماد عون، تمثّلت في كلامهالحازم جدًا في ما خصّ مسألة رفض زيادة عدد أعضاء الحُكومة لأكثر من 18 وزيرًا، ورفض منح فريق "رئيس الجمهورية–التيّار الوطني الحُر" أكثر من خمسة وزراء، مع إصراره على إحتساب الوزير الأرمني، ضمن حصّة "الرئيس–التيّار" ككلّ، بحجّة أنّ "الطاشناق" يُصوّت دائمًا إلى جانب "التيّار" في كل المُناسبات. وإزاء هذا الإصرار من جانب الحريري الذي إستخدم عبارات مثل "مُستحيل" و"لا تراجع"، لتأكيد موقفه، يمكن إستخلاص ما يلي:
أوّلاً: دلّ هذا الخُطاب على أنّ النقاط الخلافيّة الداخليّة الأساسيّة لا تزال قائمة، إنّ بالنسبة إلى حجم الحكومة، أو بالنسبة إلى حصّة فريق "الرئيس–التيّار"، أو بالنسبة إلى أسلوب تسمية الوزراء، أو بالنسبة إلى وزارتي الداخليّة والعدل!.
ثانيًا: رئيس الحُكومة المُكلّف رمى الكُرة مُجدّدًا في ملعب رئيس الجمهوريّة، مُشدّدًا بأنّه لن يتراجع عن تمسّكه برفض منح "الرئيس–التيّار" أكثر من خمسة وزراء مسيحيّين إضافة إلى وزير لحزب "الطاشناق"، أي ستة وزراء في أفضل الأحوال، من أصل 9 وزراء هم من حصّة المذاهب المسيحيّة المُختلفة في حُكومة من 18 وزيرًا. وهذا يعني عمليًا، إمّا مُوافقة الرئيس عون، ومن خلفه "التيّار" على هذا الأمر، وإمّا بقاء حال الجُمود والمُراوحة لفترة زمنيّة مفتوحة إلى أجل غير معروف! والمُفارقة أنّ أصوات عدّة من جانب مَحسوبين على حركة "أمل" أو مُقرّبين من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، بدأت أخيرًا تتحدّث بدورها عن رفض إعطاء أي جهة سياسيّة واحدة "الثلث الضامن أو المُعطّل" في الحكومة المُقبلة، بالتزامن مع تكتّم تام من قبل "حزب الله" إزاء هذا الأمر.
ثالثًا: قطع الحريري الطريق إستباقيًا، على حلّ كان قد بدأ التفكير به، ويتناول فكرة خروج نوّاب حزب "الطاشناق" من تكتّل "لبنان القوي" لتأكيد إستقلاليّتهم عنه، بهدف فتح الطريق أمام نيل فريق "الرئيس–التيّار" ستة وزراء بمعزل عن وزير "الطاشناق"، حيث أصرّ الحريري على أنّ حزب "الطاشناق" محسوب على "التيّار" وهو يُصوّت دائمًا إلى جانبه، رافضًا إعتباره مُستقلاً.
رابعًا: الإصرار على حُكومة من 18 وزيرًا، يعني عمليًا أن تتمثّل الطائفة الدُرزيّة بوزير واحد فقط، ولوّ عبر منحه حقيبتين إثنتين، علمًا أنّ هذا الوزير سيكون من حصّة الأكثر شعبيّة والأوسع تمثيلاً، أي "الحزب التقدمي الإشتراكي"، ما يعني عمليًا إبعاد أيّ تمثيل للحزب "الديمقراطي اللبناني" المُتحالف مع "التيار"، الأمر الذي من شأنه أن يثير إمتعاض كلّ من النائب طلال أرسلان والوزير السابق وئام وهّاب، وأن يُحرج "التيار" أمام حليفه، في حال الرضوح لهذا الأمر.
خامسًا: حِرص رئيس الحكومة المُكلّف على القول بأنّ الحُكومة ستتشكّل، لا يستند إلى مُعطيات حسّية وملموسة، بل إلى إستنتاج شخصي هو أقرب إلى التمنيّات منه إلى الوقائع الحاسمة، وهو نوع من إبر التخدير المُوجّهة ضُمنًا إلى اللبنانيّين، خاصة أنّ أغلبيّة كبيرة من الشعب اللبناني ضاقت ذرعًا بالتأخير الحاصل على خطّ تشكيل الحُكومة، بغضّ النظر عن الأسباب والخلفيّات، وعن صراعات الحُصص والصلاحيّات!.
سادسًا: ربط الحريري المُساعدات العربيّة والدوليّة المَوعودة، بمسألة تشكيل حُكومة الإختصاصيّين، وبتغيير في ذهنيّة التعاطي السياسي الداخلي، وبإطلاق الإصلاحات، مُعتبرًا أنّ التراجع عن طروحاته للحكومة المقبلة، يعني عدم الحُصول على هذه المُساعدات، ورابطًا حركته الخارجيّة بتحضير الأجواء أمام فتح الباب بسرعة أمام هذه المُساعدة، فور تأليف الحكومة. وهو حاول عبر هذا الجوّ، تدعيم موقفه المُتشدّد إزاء مطالب بعض القوى السياسيّة الداخليّة، وإعطاء نفسه أهميّة كبرى كرئيس مُكلّف على رأس السُلطة التنفيذيّة.
سابعًا: من المُتوقّع أن تتصاعد الردود والردود المُضادةبين الفريقين البرتقالي والأزرق، مع تسجيل دُخول أطراف أخرى على خطّ السجالات التي إنطلقت فور إنتهاء كلمة الحريري، ما يعني أنّ الأجواء لن تكون مُؤاتية في المُستقبل القريب، لمُحاولة تدوير الزوايا من قبل أيّ وسيط مُحتَمل، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس مزيدًا من التدهور على مُختلف الصعد. ولا شكّ أنّ هذه الأجواء تطرح أكثر من علامة إستفهام بشأن مُستقبل العلاقة بين "تيّار المُستقبل" و"التيّار الوطني الحُرّ"، علمًا أنّ هذا الأخير يرفع بوجه "المُستقبل" سيف "التحقيق الجنائي"، إضافة إلى بندي الصلاحيّات والمعايير الواحدة.
في الختام، نفّذ الحريري ما كان قد تسرّب إلى الإعلام منذ مدّة، بأنّه ينوي رفع السقف بوجه مطالب فريق "الرئيس–التيّار"، فكيف سيكون المخرج من المأزق الذي وصلت إليه الأمور، أمام التشدّد المُتبادل في المواقف؟! لا إجابة واضحة لأي جهة حتى تاريخه...