ينذر الاشتباك الحاصل بين قصر بعبدا و«بيت الوسط» والذي لم يشهد مثيلاً له لبنان الحديث بدخول البلاد في أزمة سياسية مفتوحة غير معروفة المدى والنتائج، وما جرى في الساعات الماضية كان بمثابة إحراق المراكب على ضفتي رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، وقد قذف بعملية تأليف الحكومة إلى عالم الغيب، حيث بات يصعب التكهن الذي سيؤول إليه هذا الاستحقاق بعد شبه الطلاق الخلعي الذي حصل بين الطرفين، والتي اشارت مضامين الرسائل النارية التي أطلقت من الطرفين إلى عمق الأزمة وانعدام الثقة. كل ذلك يحصل وسط أفق داخلي مسدود أمام سعاة الخير وكذلك أمام أي تدخل خارجي بغض النظر عن الاهتمام الخجول الذي لا تزال تعيره الدولة الفرنسية للبنان.
هذا المشهد السياسي المضاف إلى التروي الاقتصادي والنقدي بشكل مذهل بات يتطلب عملية جراحية استثنائية من أطباء داخليين وخارجيين للانقاذ لأن استمرار الوضع على ما هو عليه لمدة أطول يعني سقوط لبنان ككيان في باطن الحوت. وخصوصاً أن النظام السياسي بتركيبته الحالية معروف انه قائم على «ثلاثية» لا يُمكن لأي فريق أن يحقق مبتغاه بحياده عنها وهي التفهم والتفاهم، لا غالب ولا مغلوب، وتبادل التنازلات.
ولو كان أمر ردم الهوة القائمة بين عون والحريري من الممكن داخلياً لما كان قد توانى عن ذلك رئيس مجلس النواب نبيه برّي وهو المعروف عنه بحنكته وحكمته وابتداعه صيغ الحلول لأي عقد، وما دام الرئيس برّي منكفئاً أو على الأقل غائباً ظاهرياً عن مشهد ما يجري فهذا يدل على ان الخلاف بين الفريقين بات بحاجة إلى مروحة من التدخلات والمبادرات الداخلية والخارجية خصوصاً وأن الرئيس برّي الذي كان يُعوّل عليه التدخل لرأب الصدع لم يلمس ان تدخله سيفي بالغرض، وقد عكس الكلام المقتضب الذي صدر في الساعات الماضية عن أوساط عين التينة مدى «القرف» الذي وصل إليه رئيس المجلس من الوضع الراهن من خلال الإشارة إلى ان النّاس أصبحوا غير مهتمين بكل السجالات السياسية ولا يريدون سوى أمر واحد وهو تشكيل الحكومة بأسرع وقت.
وباعتقاد مصادر سياسية مواكبة لمسار ما يجري على خطي «بعبدا - بيت الوسط»، فإن التوتر السياسي الحاصل مرشّح للتصاعد خصوصاً وأن كلا الفريقين قد رفعا السقف السياسي إلى حده الأقصى، ومن الصعب على أي منهما التراجع أو تقديم التنازلات، وهذا يؤشر إلى ان المخرج الوحيد بات من المكن حصوله عن طريق تدخل خارجي وخصوصاً فرنسي بشكل ضاغط لإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي.
وتلفت المصادر النظر إلى أن إصرار الرئيسين عون والحريري على شروطهما المتبادلة يعني بشكل واضح ان ولادة الحكومة لن تكون سهلة بالمدى المنظور مشددة في الوقت ذاته على ان الأمر بات يحتاج إلى صدمة أو صدمات متتالية من شأنها ان تنقذ الوضع الحكومي من الشلل الذي أوقعته به التجاذبات السياسية إلى جانب إعادة انكفاء المبادرة الفرنسية التي واجهتها عثرات كثيرة نتيجة الصدام الذي تجدد بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، وتخشى المصادر السياسية ان تؤدي التجاذبات الحاصلة إلى إعادة المجتمع الدولي النظر بسياسته تجاه لبنان، وهو الذي لطالما أكد أنه لن يكون في وارد تقديم أي مساعدات للبنان من دون قيام حكومة مكتملة الاوصاف تكون قادرة على الولوج في الإصلاحات المطلوبة. وتصل هذه المصادر إلى حدّ الخوف من انفلات الأمور من عقالها حتى على المستويات الأمنية في حال بقي الوضع اللبناني على انكشافه سيما وكما هو معلوم فإن أي جهة تريد توتير الأوضاع في أي مكان تحتاج إلى أرض خصبة تمكّنها من القيام بفعلتها،ويخشى أن يصل لبنان الى هذه المرحلة فيصبح لقمة سائغة في فم من يريد لهذا البلد السوء أو لمن يريد تعزيز نفوذه وتقوية أوراقه على طاولة اللعبة الإقليمية والدولية، سيما وأن هناك خارطة جديدة تُرسم للمنطقة في ضوء المتغيّرات التي حصلت بعد الانتخابات الأميركية والوجه الجديد الذي يريد ان يطل به الرئيس الاميركي جو بايدن على منطقة الشرق الأوسط، وتشاطر المصادر القائلين بأن الملف الحكومي وغيره من الملفات في المنطقة ستكون قابلة للحلول مع أي تطوّر إيجابي يطرأ على الملف النووي الإيراني، خصوصاً وأن هناك من يقول بأن اتصالات تجري خلف الستارة للإسراع في إعادة هذا الملف على السكة التي كان عليها قبل ان يقدم الرئيس دونالد ترامب على التبرؤ منه.