أوحت الجولات الخارجية التي يقوم بها رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري أنه لجأ إلى العواصم الفاعلة لدفع عملية تأليف الحكومة في لبنان إلى الأمام، بعد جمود تلك العملية وفشل كل المحاولات والوساطات الداخلية، نتيجة تمسكه ورئيس الجمهورية ميشال عون بمواقفهما إزاء التشكيلة الحكومية العتيدة.
واذا كانت زيارة الحريري إلى قطر، بأنها ترتبط بوساطة الدوحة مع طهران للطلب من عون التراجع عن سقف حكومي رفعه تمسكاً بصلاحياته الدستورية، كما ذكرت "النشرة" في مقال خاص سابق، فإن شكل وطبيعة زيارة الحريري ولقاءاته في الدوحة أوحت بأن قطر تحتضنه، وتريد نجاحه في رئاسة الحكومة اللبنانية.
بعدها حط "الشيخ سعد" في دولة الإمارات العربية المتحدة، وإلتقى رجلها القويّ ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، فأوحى مضمون خبر ومشاهد الإجتماع المذكور بأن الإمارات تهتم بلبنان وتدعم مهمة الحريري.
وكان رئيس الحكومة المكلّف زار القاهرة، فأوحى لقاءه والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأن بلاد النيل تحتضن "الشيخ سعد" أيضاً. ثم جاءت التصريحات الروسية تؤكد دعمه في مهمته للتأليف إلى حد الكلام عن رفض "الثلث المعطّل" في مجلس الوزراء.
وإذا تمّ إستحضار الأجواء الباريسية، واجتماع الرئيس الفرنسي بالحريري ايضاً، يمكن الجزم أن رئيس الحكومة المكلّف ثبّت دعم العواصم الأساسية لمهمته: اولاً، إنّ فرنسا هي صاحبة مبادرة حل الأزمة اللبنانية، وهي ترتبط الآن بعلاقات وثيقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وقادرة على إزالة اي مطب غربي من أمام درب الحكومة اللبنانية العتيدة.
ثانياً، يرتبط الروس والإماراتيون والمصريون بحلف واقعي غير معلن يُترجم في ليبيا حالياً، وهم ابدوا إحتضانهم للحريري.
ثالثاً، تلعب قطر الآن ادواراً محورية في الإقليم، نظراً إلى طبيعة علاقتها المميزة مع كل من الولايات المتحدة وإيران. يُمكن للدوحة ممارسة تمنيات او ضغوط إقليمية ودولية بشأن لبنان لترجمتها في ولادة الحكومة العتيدة برئاسة الحريري.
رابعاً، يستطيع الروس ايضاً ان يتفاهموا مع الإيرانيين بشأن دعم أي قرار لبناني، أو الإتفاق على مؤازرة سياسية لإستيلاد مخرج للأزمة الحكومية اللبنانية.
لكن ماذا عن الأميركيين والسعوديين؟ لماذا يغيبون عن الساحة اللبنانية؟.
تتحدث المعلومات عن إنشغال واشنطن بالملف الإيراني. رغم اهتمام الأميركيين بالملف اليمني، لكن الهدف الأساسي في البيت الأبيض حالياً، هو صوغ اتفاق مرتقب مع الجمهورية الإسلامية. يريد الرئيس الأميركي جو بايدن أن يبت الملف النووي، من دون أن تعكّر أي دولة إقليمية عليه مسار التسوية مع طهران قبل الإنتخابات الإيرانية في حزيران المقبل. ومن هنا جاء هدف الاتصال بين بايدن ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو قبل ساعات من إعلان الخارجية الأميركية توجه واشنطن للتفاوض مع إيران.
لذا، لا لبنان ولا سوريا هما في جدول أعمال بايدن، الاّ بعد التفاوض مع إيران. هذا ما يُفسر غياب الإهتمام الأميركي الفعلي بملف الحكومة اللبنانية، حيث تفوّض واشنطن حليفتها باريس ببت تفاصيل لبنانية من دون اي دعم ولا حماسة أميركية تجاه العنوان اللبناني.
بالنسبة للسعودية، لا يهتم ولي العهد محمد بن سلمان بالملف اللبناني حالياً. اساساً يحيّد بن سلمان بلاده عن ملفات إقليمية عدة ستحمّله أثقال مالية في وقت ينشغل فيه بنهضة المملكة داخلياً، اقتصادياً واجتماعياً. يريد بن سلمان أن تتقدم السعودية نحو فرض نفسها قوة إقتصادية وازنة وأولى في الإقليم، وهو يخطو بنجاح لتحقيق رؤيته 2030. يعرف ولي العهد السعودي أن مصير النفط سيكون مشابهاً لواقع الفحم الحجري في العالم، بدليل اتخاذ معظم العواصم الصناعية قرارات الإستغناء عن النفط لصالح بدائل انتاج الطاقة، وصناعة سيارات تعتمد على وقود الغاز والكهرباء، كما ستفعل أوروبا بعد تسع سنوات، لذلك يخطط الأمير السعودي الصاعد لحفظ مكانة بلاده، كي لا يصيبها ما أصاب الهند بعد زوال قيمة الفحم الحجري.
يعرف السعوديون أن رعاية اي خيار لبناني تتطلب دعماً مالياً لبيروت، وهو ما لا تستفيد منه ولا تريد فعله الرياض. لذا هي لا ترغب برعاية اضافية لبلد قدّمت له الكثير منذ ما قبل توقيع إتفاق الطائف ولغاية بضع سنوات مضت.
ومن هنا لا تكترث المملكة بما يجري في لبنان، سوى تكرار مواقفها بأن السعودية تدعم الشعب اللبناني.
بالإنتظار، هل تبدّل الزيارة الرئاسية الفرنسية المرتقبة الى المملكة موقف الرياض بشأن لبنان؟ ربما يستطيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إحداث تغيير لا يرتقي الى ما يحتاجه لبنان من السعودية.