لا شكّ أنّ رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري يتصدّر قائمة "خصوم العهد" اليوم، في ظلّ "الكباش" المستمرّ بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، وعلى وقع الخلاف المتفاقم بين الرجلين على خلفيّة تشكيل الحكومة، وما يرتبط بها من حصّةٍ من هنا، وحقيبةٍ من هناك، وثلثٍ ضامنٍ أو معطّل بينهما.
وصحيحٌ أنّ الحريري خاطب عون، و"العهد" من خلاله، في ذكرى اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بلهجةٍ مرتفِعة، لم تَخلُ من "التحدّي"، وربما "الاستفزاز"، وفق قراءة البعض في "التيار الوطني الحرّ"، إلا أنّه، رغم ذلك، حافظ وفق ما أجمعت القراءات، على "شعرة معاوية" معه، ولو بشكلٍ نسبيّ.
بمعنى آخر، لم "يكسرها" الحريري بالكامل مع "العهد"، وترك "للصلح" مكانًا كما يُقال، في "تكتيكٍ" لم يعتمده، بالتوازي، رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، الذي ذهب بعيدًا في تصعيده، لحدّ وصف رئيس الجمهورية بـ"العبثي"وحكمه بـ"المدمّر"، واتهامه بأنّه "يريد الانتحار"، داعيًا إياه لـ"ينتحر وحده هو والغرف السوداء والصهر الكريم".
فلماذا قال جنبلاط ما قاله في هذه المرحلة، وهو المعروف عنه بأنّه "يَزِن جيّدًا" أقواله وأفعاله، انطلاقًا من علاقاته "المتشابكة" مع الجميع، والطَموح لاستعادة دور "بيضة القبّان" القديم؟ وأيّ تداعياتٍ لكلام "البيك" على الواقع السياسيّ العام في البلاد؟.
"الطلاق واقع"!
يستغرب المحسوبون على "الحزب التقدمي الاشتراكي" والمقرَّبون منه "الضجّة" التي أثيرت حول تصريحات جنبلاط الأخيرة، وكأنّها "فضحت" وجود خلافات جوهريّة بينه وبين "العهد"، في حين أنّ المشكلة بين الجانبيْن قائمة منذ فترة طويلة، بل منذ ما قبل عودة العماد عون من منفاه الباريسيّ، ولو أنّ العلاقة التاريخيّة بينهما شهدت على أكثر من هدنة ومصالحة، لم تعمّر بمجملها طويلاً.
برأي هؤلاء، فإنّ "الطلاق" بين الجانبيْن واقعٌ عمليًّا للكثير من الأسباب والاعتبارات، أولها إصرار "العهد" على افتعال ما يصفها "الاشتراكيّون" بالمعارك "الشخصيّة" مع جنبلاط، من خلال العمل على "شقّ" الصفّ الدرزيّ، تارةً باستخدام رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" طلال أرسلان، أو رئيس حزب "التوحيد العربي" وئام وهاب، وطورًا برمي "القنابل الصوتية" في وجه "الاشتراكي"، ولو أنّها فشلت حتّى الآن في إحداث أيّ صدى.
لكن، رغم ذلك، يثير "تصعيد" جنبلاط الذي رأى البعض أنّه تجاوز كلّ الحدود المرسومة، بدعوته رئيس البلاد إلى "الانتحار" صراحةً، الكثير من علامات الاستفهام، في الأوساط "الاشتراكيّة" قبل غيرها، خصوصًا أنّ "البيك" لم يعمَد لمثل هذا التصعيد في ظروف أكثر قساوة وصعوبة، كتلك التي أعقبت حادثة قبرشمون الشهيرة، والتي كادت تشعل "الفتنة" في قلب الساحة الدرزية، وانتهت بـ"المصالحة الشهيرة" في قصر بعبدا، ولو لم يدُم مفعولها لفترةٍ طويلة.
ومع أنّ التجربة تؤكد أنّ خيار "المصالحة" يبقى واردًا في كلّ الأوقات والظروف، في قاموس "الاشتراكيّ"، إلا أنّ المحسوبين على الأخير يعتبرون أنّ الظروف مختلفة اليوم، لأنّ "العهد انتهى" بكلّ بساطة، بحسب ما يقولون، بل بات "أضعف وأعجز من أيّ وقتٍ مضى"، سواء نجح في نهاية المطاف في إنجاز الحكومة التي يصبو إليها، أم بقي "يصارع ويعاند" رئيس الحكومة المكلّف، كما يفعل، علمًا أنّه لا يملك، برأي هذه الأوساط، أيّ أوراق قوة من شأنها "مساندته" في معركته "الأخيرة".
"البيك مأزوم"؟!
لكنّ ما يقوله "الاشتراكي" لا يجد صدى في أروقة "التيار الوطني الحر" والمقرّبين من "العهد"، الذين يعتبرون أنّه لو كان الأخير فعلاً بهذا العجز والضعف الذي يتحدّث عنه جنبلاط، لما اضطر "البيك" إلى الغضب والانفعال بهذا الشكل، وصولاً إلى حدّ الخروج عن طوره، والتفوّه بعباراتٍ لا قدرة له على حذفها تلقائيًّا، كما اعتاد على التعامل مع معظم تغريداته المثيرة للجدل.
يعتقد المحسوبون على "التيار" أنّ مشكلة جنبلاط مع "العهد" هي، في المقام الأول والأخير، في أنّه وضع حدًّا لتلك "الحيثية" التي لطالما عاش عليها "البيك"، حين كان يتباهى بلعب دور ما يسمّيها "بيضة القبان" في المجلس النيابي، وبعدما نجح في إقناع "النُّخَب" بأنّه وحده "الضامن" للتوازن في اللعبة السياسيّة، من خلال وقوفه "في الوسط" بين فريقي الصراع، وترجيحه كفّة أحدهما، وفق ما يرغب ويتمنّى.
لكن، ولأنّ البكاء على الأطلال لا ينفع، تشير أوساط "التيار" إلى أنّ جنبلاط "لم يستوعب" حتى الآن أنّ زمن هذا "الاستقطاب" ولّى مع "العهد القويّ"، يوم "ذاب" معسكرا الثامن والرابع عشر من آذار، وتداخلا إلى حدّ بعيد، بمجرّد انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا، فعاد "البيك" إلى حجمه، وانتهى دوره "المضخَّم"، بل أكثر من ذلك، بدأت الأصوات الدرزية الوازنة تظهر، معترضةً على مبدأ الأحاديّة والاحتكار، وهو ما أثار "غيظ" الاشتراكيّين أيضًا.
لكلّ هذه الأسباب، يعتقد "العونيّون" أنّ "البيك" مأزوم، لدرجة تحميله "التيار" مسؤوليّة "تمرّد" النائب طلال أرسلان عليه، إن جاز التعبير، علمًا أنّ مشكلة جنبلاط بهذا الخصوص ليست محصورة بـ"التيار"، بل تصل إلى "حزب الله"، حتى أنّ زيارته إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، قبل يومين، بعد خطاب الأمين العام للحزب السيد نصر الله وُضِعت في خانة "الشكوى" من موقف الأخير المشجِّع لتوسيع حجم الحكومة، بما "يكسر" احتكار جنبلاط للحصّة الدرزيّة في الحكومة.
"تمثيليّة غير مشوّقة"!
كلّ شيءٍ يدلّ إذًا على أنّ "شعرة معاوية" قُطِعت بالكامل بين "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"العهد" ممثَّلًا بكلٍّ من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل.
يتصرّف الأول وكأنّ "العهد انتهى" عمليًا، ويسخر من كلّ ما يُحكى عن "سنة فاصلة" عن نهايته، وعن مشاريع تدرس "التمديد" له، بداعي "منع الفراغ" الذي يكاد يكون محتَّمًا.ويتصرف الثاني وكأنّ جنبلاط هو الذي "انتهى"، بعدما أصبح "مُحاصَرًا" من كلّ "الجهات"، ولم يعد قادرًا على فرض"إملاءاته"، لولا "صداقاته" التي "يستغلّها" هنا أو هناك.
لكن، أبعد من "التصعيد" الكلاميّ الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، و"الاستنفار" الذي يكاد يصبح مملًا لكثرة استهلاكه، لا يستبعد أحد أن تنتهي هذه الجولة من "الكباش" إلى "مصالحة" جديدة، رغم إدراك الجميع سلفًا أنّها لن تكون أكثر من "تمثيليّة غير مشوّقة"!.