بعد كلام رئيس حُكومة تصريف الأعمال سعد الحريري المُفصّل عن الملفّ الحُكومي الأسبوع الماضي، جاء أمس كلام رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" النائب جبران باسيل الذي لا يقلّ تفصيلاً. وبين الكلامين المُتباعدين، واللذين فتحا في كلّ مرّة حفلة من الردود الإعلاميّة والردود المُضادة، لا يبدو أنّ الحكومة المَنشودة ستُولد في المُستقبل القريب! والسبب أنّ لكلّ من الحريري وباسيل، مشروعًا مُختلفًا، بحيث يُمكن الحديث عن خطّين لا يلتقيان!.
بالنسبة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال، هو يريد تشكيل حُكومة، لا قُدرة لأيّ جهة سياسيّة فيها على تعطيل مشاريعها، حيث يجب على أكثر من فريق سياسي التلاقي والتصويت جنبًا إلى جنب لتأمين "الثلث المُعطّل" على أيّ قرار. وهو يريد حُكومة تضمّ وزراء إختصاصيّين بعيدين عن السياسة قدر المُستطاع، لتكون مُنتجة وفق المشروع الذي يأمل تطبيقه، وخُصوصًا الذي يأمل أن تكون له الكلمة الطولى فيه. وهذا المشروع يقضي بإستعادة الدعم العربي والدولي للبنان، للمُضيّ قُدمًا في سياسة بظاهر إصلاحي تغييري شكلاً، لكنّها تُشكّل إمتدادًا لسياسات سابقة غير ناجحة إطلاقًا مَضمونًا، مع التذكير بأنّ هذه السياسات كان يجري إعدادها والتعهّد بتطبيقها خلال السنوات وحتى العُقود الماضية، بعد كل مؤتمر دولي داعم للبنان، من دون أن يحصل ذلك!.
بالنسبة إلى رئيس "التيّار الوطني الحُرّ"، هو يُعلن ظاهريًا ترفّعه عن المُشاركة في الحُكومة، ويُغلّف مُعارضته بالدفاع عن الدُستور والصلاحيّات، وبخاصة عن حُقوق المسيحيّين. وهو بدوره مع حُكومة تضمّ وزراء إختصاصيّين، لكن مع تطبيق نفس المعايير على مُختلف القوى المُشاركة، أي عمليًا مع وزراء يرتبطون بالمرجعيّات السياسيّة التي ستسمّيهم، وذلك إنطلاقًا من حسابات تتجاوز مسألة دور الحُكومة المُقبلة، وترتبط بالجهة التي ستُمسك بالسُلطة التنفيذيّة في حال تعثّر إجراء الإنتخابات النيابيّة في ربيع العام 2022، وخاصة في حال تعثّر إنتخاب رئيس جديد للجُمهوريّة في خريف العام 2022 أيضًا. والمشروع السياسي لرئيس "التيّار الوطني الحُرّ" ينصّ على أن يكون هدف الحكومة الأوّل والأساسي، ليس جلب الأموال من الخارج، بل فتح ملفّات الفساد في لبنان على مصراعيها، والعمل على تطبيق خطّة إصلاحيّة جدّية، بتوجيه مُسبق نحو مُعالجة آثار وترسّبات المرحلة السابقة التي باتت تُعرف بإسم "الحريريّة السياسيّة".
إشارة إلى أنّه وبالتزامن مع هذين المشروعين اللذين لا يلتقيان، الصراع الحقيقي يتركّز على مرحلة ما بعد العهد الرئاسي الحالي، حيث أنّ الحريري يُعدّ العدّة، من خلال التفاهم ضُمنًا مع "الثنائي الشيعي"، وتحديدًا مع "حركة أمل"، ومع قوى سياسيّة مُختلفة، مثل "المردة" و"الإشتراكي" وغيرهما، لتشكيل إئتلاف سياسي واسع وقوي، قادر على تحديد هويّة الرئيس المُقبل للبنان، بمعزل عن رأي باقي القوى السياسيّة الرئيسة، وبخاصة عن رأيي "التيّار الوطني الحُرّ" و"القوات اللبنانيّة". في المُقابل، إنّ باسيل يُعدّ العدّة، من خلال الحفاظ على تحالفه مع "حزب الله"، والتمسّك بكلّ من مفهوم "الرئيس القوي"، وصلاحيّات الرئاسة، وحجم الحُضور المسيحي في الحُكومة والسُلطة-نوعًا وكمًّا، لتكون محطّة الإنتخابات الرئاسيّة المُقبلة، إستكمالاً لنهج بدأ مع إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجُمهوريّة، بعد فراغ رئاسي إمتدّ لسنتين ونصف السنة، أي ليكون المُرشّح الرئاسي المُقبل من صلب خيار "التيّار الوطني الحُرّ" الأكثر تمثيلاً شعبيًا، حتى إشعار آخر. وتذهب بعض التحاليل إلى حدّ الحديث عن أهداف مُبيّتة مُتبادلة بين تيّاري "المُستقبل" و"الوطني الحُرّ"، حيث يتردّد أنّ الأوّل يريد إحراق ما تبقّى من عهد الرئيس عون، لطيّ صفحة حُكم "التيّار الوطني الحُرّ" بشكل نهائي في المدى المَنظور، بينما يتردّد أنّ الثاني يريد جلب العديد من المَحسوبين على "تيّار المُستقبل" إلى المُحاكمة، تمهيدًا لسجنهم، بتهم الفساد.
في الختام، لا يبدو أنّ الحكومة المَنشودة-أقلّه لتأخير سرعة الإنهيار الحالي المُتدحرج، ستُشكّل في المُستقبل القريب، علمًا أنّه في حال تشكيل الحُكومة اليوم قبل الغد، هي تحتاج لما لا يقلّ عن ثلاثة إلى أربعة أشهر لتبدأ بالإمساك بالملفّات الصعبة المَوروثة من الحُكومات السابقة، بدءًا بالديون الخارجية الهائلة المُتراكمة والمُتعثّرة، وُصولاً إلى الإنهيارات الماليّة والإقتصاديّة والحياتيّة على مُختلف الصُعد! وهذا يعني عمليًا أنّ الحُكومة المُقبلة–إذا ما تشكّلت اليوم، سيكون لديها بضعة أشهر فقط للعمل، قبل أن تدخل السُلطة بكاملها في حال التجاذب الشديد، وربّما الشلل، نتيجة إقتراب موعد الإنتخابات النيابيّة والرئاسيّة، مع كل ما تحمله كلّ من هاتين المحطّتين من خلافات داخليّة عميقة وجذريّة، لن يكون من السهل تجاوزها!.