لم يعد الحديث عن أزمات اللبنانيين يحمل جديداً: المشهد مأساوي في كلِّ مجال سياسي وإقتصادي معيشي وصحّي. لكن ماذا عن المعالجات؟. تتفق جميع القوى السياسية، رغم تبايناتها، على أن الحلّ يبدأ بتأليف حكومة جديدة تضع حداً للإنهيار. إلاّ أنّ القوى نفسها تتسابق عملياً على الحصص الوزارية، وهو أمر يجمّد مسار التأليف منذ أكثر من أربعة أشهر، ويطيح بكل المساعي والمبادرات التي تُطرح داخلياً أو خارجياً. الأهم: ماذا بعد؟.
لا يبدو أن هناك نيّة عند فريقي "العهد" ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري تقديم تنازلات متبادلة، لأسباب شرحها "الشيخ سعد" في خطابه وفنّدها رئيس التيار "الوطني الحر" النائب جبران باسيل في مطالعته. مما يعني أن كل فريق يتمسك برؤيته الحكومية والسياسية، ليس لرفع سقف التفاوض المطروح بينهما، بل لإنعدام الثقة بين حليفين سابقين.
كيف تعود الثقة؟ لا توحي كل المبادرات الفرنسية أو القطرية أو الداخلية أنها تستطيع فرض ثقة مفقودة بين الحريري و"العهد". ولنفترض أن تسوية حكومية تمّ التوصل إليها بمواكبة إقليمية ودولية، كيف سيتعامل الفريقان مع بعضهما على طاولة مجلس الوزراء؟ هل سينسجم رئيس الجمهورية ميشال عون مع رئيس حكومة هو الحريري؟!.
في حال جرى تأليف الحكومة، سنكون أمام مشهد معقّد غير منتج حكومياً ولا سياسياً، في وقت يحتاج فيه اللبنانيون إلى توحيد الجهود الوطنية لمواجهة أزمات تتطلب قرارات حكومية صلبة. خصوصاً أن حكومة التكنوقراط ستكون عرجاء حينها، وسينظر وزراؤها إلى وجوه بعضهم بوجود ركنين سياسيين هما رئيسا الجمهورية يترأس جلسات مجلس الوزراء وإلى يمينه رئيس الحكومة.
لا تكفي عملية تسوية جزئية تتيح ولادة حكومة فحسب، بل إن فقدان الثقة بين فريقين أساسيين يقودان السلطة التنفيذية، وإختلاف خياراتهما السياسية سوف يطيح بأي آمال للإنقاذ الوطني المطلوب. فهل تكون المبادرات التسووية المطروحة تتعلق حصراً بإستيلاد حكومة؟ أم ستأتي تصالحية لفرض تعايش بين رئاستي الجمهورية والحكومة؟.
كل تأخير بإنتاج التسوية السياسية المطلوبة يسمح بمزيد من السجالات، سيعمّق الشروخ على خطي بعبدا-بيت الوسط وما بينهما ميرنا الشالوحي. ومن هنا يخشى مطّلعون من بقاء السجال والتباعد بين الفريقين المذكورين طيلة الفترة المتبقية من عمر "العهد"، أي ان يكون الزمن هو الفاصل بين حليفين متخاصمين يشهران السيوف السياسية في وجه بعضهما لغاية الإنتخابات النيابية والرئاسية. ويستطيع خبراء السياسة الجزم ألاّ رابح بينهما، لأن كليهما يستند الى قاعدته الطوائفية، وهو ما رسّخه مضمون إطلالة باسيل الأخيرة: هو لم يُصب رئيس الحكومة المكلّف في هجومه السياسي بأي أذى شعبي، رغم توجيه السهام على بيت الوسط، بل إن كلام رئيس التيار البرتقالي أفاد ضمنياً رئيس التيار الأزرق، لأن شد العصب المسيحي الذي حاول باسيل القيام به بالحديث عن "حقوق المسيحيين" تتردد تداعياته تمسكاً شعبياً بالحريري في الساحة السنّية. وهكذا ستجرّ السجالات مواقف وبيانات وتصريحات وتغرديدات، في زمن يئنّ فيه اللبنانيون من ضآلة مواردهم المالية، وضعف قيمة عملتهم الوطنية، وتدرّج الفئات الإجتماعية نحو الأكثر فقراً. وهي مصائب تجمع كل الطوائف ولا تقتصر تداعياتها القاتلة على طائفة ولا مذهب ولا منطقة بعينها.
إزاء ذلك، تتراكم الأسئلة: على ماذا يراهن كل فريق في مساحة الإنتظار من دون التقدم نحو إنجاح المبادرات التسووية؟ لماذا لم يتجاوب الأفرقاء المعنيون مع مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري القائمة على توازن القوى بين بعضها في الحكومة العتيدة؟ لماذا لم تنجح المبادرة الفرنسية حتى الآن؟.
هناك أجوبة متنوعة تحمل الشك لا الجزم: اولاً، ينتظر فريق "العهد" وحلفاؤه مسار التفاوض الأميركي-الإيراني المرتقب لمعرفة كيفية التعاطي مع التوازنات اللبنانية.
ثانياً، ينتظر رئيس الحكومة المكلف الإشارة السعودية التي لم تظهر في الرياض إزاء مهام الحريري، وبالتالي يترقب الأخير زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى المملكة العربية السعودية لدفع السعوديين الى اتخاذ خطوة تجاه "الشيخ سعد".
ثالثاً، يجري الترقب لمسار التعاطي الأميركي مع لبنان، في ظل عدم اكتراث الإدارة الجديدة بالملف اللبناني بأي شكل حتى الآن.
وعليه، بالمحصلة يمكن القول إن الحكومة غير قابلة للولادة السريعة، قبل ترجمة أحد المؤشرات المذكورة. وفي حال الإتفاق على تأليف حكومة جديدة، لا يعني أن السياق السياسي سيكون مسهّلاً لفرض الإنقاذ بغياب الثقة وتعدد الخيارات بين ركنين: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.