في مقارنة بسيطة تجريها مراكز الدراسات والأبحاث الغربية بين واقع أميركا وخصومها حاضراً وموقعهم قبل 30 سنة تصل إلى رسم صورة تقول خطوطها بأنّ الهوة السحيقة بين أميركا والصين تقلصت إلى حدّ كبير جعلت الصين تتقدّم على أميركا في كثير من النواحي الاقتصادية وبات الاقتصاد الصيني يتحضّر ليكون الاقتصاد العالمي الأول مواكباً مع قوة عسكرية تنمو خلف الأسوار من غير استعراضات أو استفزاز أو صخب، قوة تعدّها الصين لدورين استراتيجيين أولهما الدفاع عن النفس وحماية وحدة الدولة الصينية وثانيهما حماية الفضاء الحيوي الاستراتيجي الذي يحتاجه الاقتصاد الصيني في حجمه وشكله الجديد. وفي المقابل كانت الولايات المتحدة الأميركية نفسها تتآكل في نفوذها الدولي وتتعثر في مشروعها الإمبراطوري القائم على الأحادية القطبية وتتجرّع الهزائم في أكثر من ميدان دولي، والأخطر ما بات يجري على الصعيد الداخلي من ترهّل وتآكل وما يلحق بالاقتصاد والدولار من وهن وتراجع.
أما السبب في كلّ ذلك كما يقول الخبراء الأميركيون فإنه يرتكز على عوامل عدة أهمّها أنّ أميركا أشغلت نفسها بحروب شنّتها على الدول والشعوب هنا وهناك من الخليج إلى أفغانستان فالعراق فليبيا فسورية واليمن إلخ… وعوّلت عليها لتفرض أحاديتها الإمبراطورية، أما الصين فقد انصرفت بصمت إلى اقتصادها وإعداد القوة للدفاع عنها، وكانت النتيجة أنّ أميركا أهدرت المال الوفير ولم تحقق النتائج المتوخاة كما لم تستطع أن تموّل حروبها من جيوب الآخرين بشكل كامل رغم البقرة العربية الخليجية الحلوب التي مدّت أميركا بجزء من نفقاتها في تلك الحروب، لكنها لم تغطِّ كلّ النفقات وبقيت الخزينة الأميركية هي الأساس وجيب المواطن الأميركي هي المصدر الرئيسي للإنفاق على الحروب التي تمخضت بعد 30 عاماً عن خسائر متعدّدة الوجوه استراتيجية وعسكرية وسياسية، فضلاً عن الخسائر المادية والاقتصادية، ما قلّص الفارق بين أميركا وخصومها بالشكل الذي ذكرناه مع الصين، أما مع روسيا فللمسألة كلام آخر.
إذ عندما انطلقت أميركا في أواخر القرن الماضي وبعد انحلال الاتحاد السوفياتيّ (ندّها السابق على المسرح الدولي)، عندما انطلقت في حروبها تلك كانت روسيا وريث الاتحاد المنحلّ تراجعت لتصبح دولة فقيرة تصنّف ضمن الدول الداخلية التي لا اهتمام إقليمياً أو دولياً لها، لأنّ اهتمامها الأول كان كيف تطعم شعبها، ولم تفدها ترسانتها النووية التي ورثتها من الاتحاد السوفياتيّ في الاحتفاظ الفعلي الفاعل بالمقعد الدولي العالمي الذي هو لها، وسقطت إلى حدّ بعيد تحت قبضة المافيات في المال والاقتصاد والإعلام إلخ… حتى أنّ حق الفيتو الذي لها في مجلس الأمن تعطل استعماله عملياً خشية من الغضب الأميركي. وبغياب الاتحاد السوفياتي وعجز روسيا ظهرت أميركا من غير منافس على المسرح الدولي بعد أن حوّلت أوروبا (القارة العجوز بالتوصيف الأميركي) إلى مجرد تابع أو منفذ أو حامل رسائل أميركية إلى العالم.
بيد أنّ الحرب الكونية التي خططتها وأضرمت أميركا نيرانها وقادتها في الشرق الأوسط تحت عنوان “الربيع العربي” (العنوان المزوّر الكاذب)، ورغم التدمير الهائل الذي أحدثته بشكل خاص في ليبيا واليمن وسورية، تدمير كان سبقه تدمير في العراق قبل عشر سنوات، إنّ هذه الحرب رغم هذا التدمير فإنها لم تحقق لها ما تريد لا بل وصلت الأمور فيها إلى حالة النصر المستحيل والهزيمة المحتملة، ما سمح لا بل ما وفّر لروسيا ومن الباب السوري بطاقة دعوة للتدخل وفرصة تخطي الأسوار التي عزلتها عن العالم والانخراط في عمل ميداني عملاني برّرت لنفسها المشاركة فيه بأنه عمل دفاعي باعتبار أنّ “الدفاع عن موسكو يبدأ عند أسوار دمشق”، ورغم أنّ مقاربتها للملف السوري كانت حذرة مشوبة بالخشية من إغضاب أميركا وردة فعلها إلا أنها “كسرت حاجز الخوف نوعاً وعلى خطين خط ميداني بالعمل العسكري المباشر ضدّ الإرهاب المدعوم أميركياً، وبعمل سياسي ذي بعد ميداني أيضاً وشكلت منظومة استانة مع إيران وتركيا لرعاية الشأن السوري، منظومة كادت أن تحلّ أو حلت مكان منضدة جنيف الفاشلة المتعثرة بيد أوروبية أميركية.
وهكذا وجدت أميركا نفسها في مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين أمام خصمين يحاصرانها روسيا والصين، ولم تبق إيران ومعها محور المقاومة وقلعته الوسطى سورية وحدها دولياً في ميدان الرفض للسياسة الأميركية وانتهاج سياسة الاستقلال الوطني التامّ بعيداً عن التبعية لأميركا ورفضاً لإملاءاتها.
هذا الواقع الدولي الجديد فرض على أميركا مراجعة سياستها في العالم وأرغمها على الانتقال من “استراتيجية البحث عن المكاسب وتراكمها لتكريس الأحادية القطبية” التي باتت مستحيلة التحقق لا بل باتت منتجة للخسائر والتراجع الذي بدأ يتسارع في ظلّ واقع داخلي أميركي مقلق، فرض الانتقال إلى استراتيجية تحديد الخسائر ومواجهة الخطر الأكبر. وبات السؤال الأميركي ليس “كم سنربح ونراكم من الأرباح؟” بل “كيف نحافظ على ما في اليد حتى لا نخسر أكثر؟”، أيّ بات الحلم الأميركي عدم التراجع الإضافي وليس التقدّم كما كانت تحلم.
وفي التطبيق العملي باتت أميركا ترى في الصين العدو الاستراتيجي الأعظم، وفي روسيا العدو العسكري الأكبر، وفي إيران ومحور المقاومة العدو المقاوم الأخطر على سياستها في الشرق الأوسط، الأمر الذي فرض عليها اعتماد أولويات المواجهة وفقاً لطبيعة الخطر وجديته وقربه. وتحت وطأة ذلك نرى أنّ أميركا اعتمدت كما يبدو استراتيجية إنقاذ وتحديد خسائر وترتيب أوليات جديدة تقوم على ما يلي:
1 ـ تبريد الصراعات في الشرق الأوسط ومعالجة ملفاته بالوسائل السياسية التي تستند إلى قوة عسكرية محدودة من أجل الضغط ليس أكثر، لأنها أيقنت أنّ النصر العسكري من قبلها مستحيل، وأنّ الاستنزاف المستمرّ يخدم روسيا والصين، وأنّ تحديد الخسائر يفرض وقف المواجهات حيث هي والبحث عن حلول سياسية تؤمّن لها مصالح معينة يمكنها حمايتها الآن وغير مضمونة في المستقبل إذا استمرّ الصراع.
2 ـ الانتقال إلى الشرق الأقصى حيث ميدان الخطر الأعظم المتأتي من الصين، لرسم خطوط الحصار والدفاع وممارسة الضغوط العسكرية والسياسية وإشغال الصين بملفات تنتجها لها لتصرفها عن مسارات النمو الاقتصادي والتطوّر العسكري والتوسع في الفضاء الاستدراجي الحيوي.
3 ـ التركيز على الأداء الروسي في الشرق الأوسط وأوروبا وشمال أفريقيا لإقفال الأبواب بوجهه وحرمانه من فرص التعاظم عالمياً.
وفي الخلاصة نقول إنّ أميركا دخلت مرحلة الخروج تسلّلاً من الشرق الأوسط الذي رغم ما أمّنه لها من أموال، أفقدها بالمقاومة التي أبداها بوجهها فرصة فرض النظام العالمي الجديد الأحادي القطبية ومنح أعداءها وخصومها فرص التقدّم وجَسْر الهوة بينها وبينهم وباتت الآن في مرحلة الانسحاب الهادئ، ولذاك يضحكني أولئك الذين يطالبون أميركا بمزيد من التدخل في المنطقة ولبنان منها، وهم لا يقرأون الحال الأميركي واستراتيجية أميركا الجديدة التي فرضها عليها واقع الخسائر والهزائم والترهل، أما المقاومون المدركون لطبيعة المرحلة فعليهم أن يضعوا خططاً للعمل بما يتناسب مع أحكام وقواعد مرحلة انسلال العدو خارجاً، فلا يتردّدون في موقف ولا يتسرّعون في قرار ولا يُستفزون في تصرف أو تدبير. فالوقت يلعب لمصلحتهم.