إذا ما نظر أيّ مراقب بواقعية الى سيل المواقف اللبنانية منذ خطاب سعد الحريري في 14 شباط، وصولاً إلى المؤتمر الصحافي لجبران باسيل في 21 شباط الجاري، وما بينهما من تصريحات وبيانات وتغريدات، فإنه لن يتوانى عن القول بقدر عالٍ من الثقة ان لا حكومة لبنانية قبل نهاية العهد العوني.
في الواقع، ثمّة مؤشرات كثيرة تدعم هذا الرأي، فقد مَضت 4 أشهر على تكليف سعد الحريري بتشكيل «حكومة الانقاذ»، ولا يزال النقاش محبوساً في دائرة اللعبة السياسية التقليدية، ابتداءً من المعادلات المعقدة لتوزيع الحقائب الوزارية، وصولاً الى الثلث الضامن أو المعطّل، الى آخر تلك الأدبيات التي غالباً ما كانت ترافق لعبة التأليف في مرحلة ما قبل الانهيار.
المثير للدهشة أنّ كل المعنيين بملف تأليف الحكومة ما زالوا يشحذون أسلحتهم في المعركة الحكومية وفق نمطية ما قبل 17 تشرين الأول 2019، إن على مستوى الحراك السياسي الداخلي، الذي يفترض أنّ البلد ما زال يمتلك مقومات تسمح لهذا الفريق أو ذاك بتصفية حساباته ضد خصومه، أو على مستوى الحراك السياسي الخارجي، الذي لا يزال غارقاً في وَهم لبناني متأصّل، وهو أنّ لبنان يشكّل محور الكون في السياسات الدولية.
على هذا المنوال، يحاول البعض أن يجعل التحركات الخارجية لهذا الطرف أو ذاك، ولا سيما حين يتعلق الأمر بسعد الحريري، نافذة يمكن الرهان عليها لحل العقد، التي من المؤكد أنها لم تعد تقف عند حد حكومة من 18 أو 20 أو 22 وزيراً، أو عند ثلث معطّل يريده رئيس الجمهورية ويرفضه رئيس الحكومة المكلف.
المعضلة الحقيقية هي أنّ لبنان وصل الى درجة من الانحدار، الذي يتجاوز بكثير مشكلة أنه لم يعد يحتلّ مكاناً في قائمة أولويات السياسات الخارجية، سواء كانت أميركية أو فرنسية أو روسية، ذلك أنّ تجربة العامين الماضيين أظهرت للعالم بأسره، وبما لا يحمل أدنى شك، أنّ «البلد المريض» المسمّى «لبنان»، بات حالة ميؤوساً منها، ما يعني من الناحية الواقعية أنّ الاستثمار في أزمته هو استثمار خاسر بكل المقاييس.
لا يقتصر ذلك على روسيا، التي لا تنظر الى لبنان سوى من وجهتها السورية، أو على الولايات المتحدة، التي يتّضح يوماً بعد آخر أنّ الشرق الأوسط برمّته قد لا يمثّل لديها أولوية في المرحلة المقبلة (آخذاً في الحسبان ديناميات الصراع الدولي التي باتت صراع جبابرة في ظل تنامي الدورين الروسي والصيني على مسرح السياسة الدولية)، أو حتى فرنسا، التي اعتقدت انّ انفجار مرفأ بيروت ربما يشكّل لحظة فريدة لتعزيز نفوذها المتراجع في شرق البحر الأبيض المتوسط.
اذا ما تحدثت في لبنان مع أي دبلوماسي، عربياً كان أو غربياً، أو حتى أعجمياً، لَصارَحك بشكل تلقائي بأنّ جلّ ما يهمّ دائرة اتخاذ القرار في بلده هو التعامل مع تداعيات الازمة اللبنانية (إنسانياً بالدرجة الأولى)، وليس التعامل مع الأزمة نفسها.
على هذا الأساس، هناك من يقول إنّ رئيس الحكومة المكلف يُخطىء في اتّكاله على المبادرة الفرنسية، تماماً كما يخطئ خصومه في اعتبار أنّ تكرار تجربة «الدوحة 2008» ممكنة في حال تحررت باريس من الضغط الأميركي، وكذلك يخطئ أيضاً الجميع في الاتكال على دور روسيا، وتصوير كل الاتصالات التي يجريها نائب وزير خارجيتها ميخائيل بوغدانوف، باعتبار انها تمهيد لمبادرة سياسية يمكن أن تُخرج لبنان من عنق الزجاجة.
بهذا المعنى، فإنّ المناخ الداخلي يبقى أصدق انباءً من الحراك الخارجي، ما يجعل السيناريو الأقرب الى الصوابية هو ما تجمع عليه المصادر المتعددة من أنّ التأليف لا يزال صعب المنال، وأن لا كلام جدياً حول تشكيل الحكومة إلّا إذا تراجع أحد الأطراف الأساسيين المعنيين بالتأليف خطوة إلى الوراء، وهذا ما ليس وارداً حتى الآن، أو على الأقل هذا ما توحي به مواقف كلّ من سعد الحريري وجبران باسيل الناطِق بلسان رئيس الجمهورية، ناهيك عن بيانات القصر ومستشاريه.
وما يؤكد هذا الأمر، هو أنّ كل محاولات إيجاد حلّ وسط بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، بما يُفسح في المجال أمام الأخذ والردّ الحكوميين، قد فشلت، ابتداءً من الوساطة الفرنسية التي جعلت الرئيس المكلف يتجاوز «إهانة» شريط الفيديو الرئاسي المسرّب، مروراً بمبادرة الرئيس نبيه بري التي اصطدمت بالثلث الرئاسي المعطّل، أو حتى الطروحات الأخيرة لجبران باسيل التي سمّاها مبادرة لحلّ الأزمة الحكومية، والتي لا يمكن النظر إليها إلّا باعتبارها مجرّد محاولة للهروب الى الأمام، أو في أفضل الأحوال مبادرة مبنيّة على قواعد منتهية الصلاحيّة تقوم على مخارج سطحية، لا سيما في ما يتعلّق بعدد الوزراء في الحكومة العتيدة، أو في ما يتّصل بمنح تيار «المردة» وزيراً مسيحياً إضافياً في حكومة الـ20 وزيراً. والذي جاء، أي هذا المَنح، أقرب الى محاولة «رشوة» للمردة من جهة، لتمرير الثلث المعطّل من جهة ثانية؟!
بهذا المعنى، فإنّ الرهان على المتغيّر الخارجي في الوقت الراهن يبدو أقرب الى العبث السياسي، حتى وإن راهَن البعض على صدمة كهربائية فرنسيّة على مستوى عواصم القرار الإقليمي والدولي، مع العلم بأنّ مثل هذه الصدمة لا يمكن انتظارها ضمن المدى المنظور، لا سيما أنها يفترض أن تُلاقي حراكات سياسية ودبلوماسية على الاجندة الدولية، وعلى رأسها اللقاء بين الرئيس ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، واللقاء بين الرئيس الاميركي جو بايدن وقداسة البابا فرنسيس، وبطبيعة الحال مؤشرات التفاوض المحتمل بين الولايات المتحدة وايران حول الاتفاق النووي، بكلّ ما يرافق ذلك من استعراضات جيوسياسية، بدأت تأخذ منحى أكثر تشدداً منذ انتهاء مهلة 21 شباط، التي حددتها إيران للمضيّ قدماً في تصعيد ما قبل التفاوض، في ظل عدم قيام الجانب الاميركي برفع العقوبات عنها.
كل ما سبق يجعل الرهان على حلّ خارجي في الوقت الحالي مجرد رهان خاسر على متغيّرات لن تتضِح معالمها ومفاعيلها قبل الربيع المقبل، حين تتبلور مسارات السياسات الدولية والاقليمية التي يمكن الافتراض أن لبنان يمكن أن يتأثر بها بالوكالة وليس بالأصالة.