لم تنجح مبادرة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في كسر او خرق جدار الخلاف الحاد مع خصومه، بل لعلّها أضافت حجراً جديداً الى هذا الجدار السميك، بفعل إنتفاء الثقة كلياً بين الجانبين. وهكذا، يبدو أنّ المبادرات على اختلافها لا تزال تتعثر تباعاً في انتظار إيجاد البيئة السياسية المناسبة لاحتضانها.
يعتبر المؤيّدون لباسيل انّ الرجل يعيد تدريجياً ترميم صورته وشعبيته، بعد الانتكاسة الكبيرة التي تعرّض لها عقب انتفاضة 17 تشرين، لافتين الى انّه يستثمر في أخطاء خصومه الذين «يقدّمون له هدايا سياسية هو بأمّس الحاجة اليها».
وبالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ باسيل استفاد من محاولة الرئيس سعد الحريري تهميش دوري رئيس الجمهورية و»التيار الحر» في ملف تشكيل الحكومة، حتى يسترجع بعضاً من قوته ورصيده في الساحة المسيحية، بعدما تصدّر من جديد معركة الدفاع عن حقوق المسيحيين، والتي وصفها في كلمته الاخيرة بالمعركة الوجودية.
ويشير أصحاب الرأي البرتقالي، الى انّ افتراض البعض بأنّ الرئيس ميشال عون وباسيل في موقع ضعيف، يسمح بالإنقضاض عليهما ومن خلالهما على التوازنات المصحّحة، أدّى عملياً إلى ظهور تعاطف معهما في الوسط المسيحي، الذي شعر بأنّ هناك محاولة لتكرار سيناريو ما قبل 2005، حين كانت المعادلة الداخلية تعاني من اختلال كبير على حساب الميثاقية والشراكة.
وإذا كان خصوم باسيل يفترضون انّه معزول ومأزوم بفعل خلافاته مع معظم القوى الداخلية، فإنّ مناصريه يعتبرون انّ هذا الامر يُسجّل له وليس عليه، «لأنّ اغلب الذين يواجهونه هم جزء من منظومة الفساد، وبالتالي هو سيكون بالتأكيد رابحاً ومتصالحاً مع نفسه وجمهوره حين تحاربه هذه المنظومة ولا تُصنّفه ضمنها، مع الإشارة الى انّ التيار صنع اصلاً التسونامي الجارف عندما حاولوا محاصرته وعزله خلال الانتخابات النيابية عام 2005، ولذا كلما امعنوا مجدداً في استهدافه والتضييق عليه كلما ازداد قوة وحضوراً».
ويلفت المقتنعون بصوابية طرح باسيل، الى انّه لم يكتف في إطلالته الأخيرة بتوصيف الأزمة التي تواجه لبنان، بل اقترح معالجات لها في دلالة على انّه «ليس أصل المشكلة كما يصوره البعض، وانما صاحب حلول مرحلية واستراتيجية، تتدرج من تثبيت أصول الشراكة في النظام الطائفي، وصولاً الى اعتماد مشروع الدولة المدنية المضاد للطائفية».
وفي حين يعتبر المعارضون لخيارات باسيل انّه يتحمّل المسؤولية الأساسية عن عرقلة تشكيل الحكومة، بسبب حساباته السلطوية واصراره على انتزاع حصّة وزارية تلبّي مصالحه، يشير مؤيّدوه الى انّه اثبت انّ العكس هو الصحيح «عندما دعا أصحاب الاتهامات الى ان يأخذوا الحكومة بالكامل شرط إقرار الإصلاحات الحيوية التي ينادي بها التيار، ما يؤكّد انّ باسيل يريد تحقيق مكاسب وطنية لا فئوية».
المقاربة المضادة
لكن هذه التفسيرات الإيجابية لكلام باسيل لا تجد اي صدى لها لدى القوى السياسية التي تخاصمه، بل انّ اوساطاً مسيحية على خلاف معه، تؤكّد انّ
نظرية «الحقوق المسيحية» لم تعد تستقطب المسيحيين، «وهي فقدت جاذبيتها وقدرتها على التأثير، منذ التحول الكبير في 17 تشرين 2019. وإذا كانت هذه النظرية قد نفعت سابقاً في شدّ العصب، الّا انّ تأثيرها تراجع كثيراً، بعدما فقد المسيحيون مكتسباتهم التاريخية في الاقتصاد والمصارف والمدارس والجامعات والمستشفيات، بفعل الانهيار الاقتصادي والمالي الذي جرف عناصر قوتهم الأساسية في المجتمع اللبناني، ووضع الكثيرين منهم على خط الفقر او تحته، بحيث انّ شعار الدفاع عن الحقوق صار خاوياً وبات عاجزاً عن دغدغة المشاعر».
وتبعاً لقناعة تلك الاوساط، أصبح باسيل عبئاً على العهد، ليس الآن فقط بل منذ انطلاقته، «لأنّ معظم المعارك التي خاضها عون وادّت الى استنزافه، انما كانت في معظمها لتعزيز موقع باسيل، من الحكومات والادارة والتيار، الى الطموح الرئاسي الذي فرض ايقاعه على سياسات قصر بعبدا وميرنا الشالوحي باكرا جداً».
اما الإيجابية التي أظهرها باسيل حيال «حزب الله» في خطاب الأحد الماضي بعد «قرصة» بيان المجلس السياسي قبله، فتعكس وفق الاوساط المسيحية معرفة رئيس التيار بأنّه لم يبق له من سند سوى «حزب الله»، على الرغم من اعتراضاته على سلوك الحزب وخياراته في أكثر من ملف، «وعليه فضّل باسيل ان يستمر مستظلاً بسقفه، وان يجمّد النقاش العلني حول الملاحظات على إخفاق التحالف بينهما في بناء الدولة، بحيث يحاول ان يستفيد من اي تقارب سنّي - شيعي محتمل بدل ان يكون ضحيته».
لكن الاوساط المسيحية ترى انّ للحزب حساباته ومعادلاته «وهو يريد أن يعطي فرصة للحريري ويقدّم له التسهيلات، الى درجة انّ امينه العام السيد حسن نصرالله كاد يقول في خطابه الاخير «جبران عين وسعد عين».
وعليه، تلاحظ الاوساط انّ هناك تعديلاً في مقاربة الحزب، نقلته من حالة الاصطفاف الكامل مع عون وباسيل الى تموضع اكثر مرونة، يسمح له بتفهم الحريري، من دون مغادرة التفاهم مع التيار. ولا يمكن في رأي تلك الاوساط، فصل براغماتية الحزب عن مواكبته لمساعي التقارب الأميركي- الإيراني وانعكاساتها المحتملة على المنطقة، وإعطائه الاولوية دائماً لتحصين الواقع الإسلامي اللبناني ضدّ الفتنة المذهبية، وتفضيله سعد على شقيقه بهاء، الذي يحاول عبر ادبيات حادّة اختراق الساحة السنّية وإضعاف بيت الوسط، إضافة إلى أنّ الحزب يفترض انّ الحريري قد ينجح في تحصيل مساعدات دولية للبنان، الأمر الذي سيسمح بتجنّب الانهيار والتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية على بيئته الحاضنة».
وفي ظنّ الاوساط المسيحية المناهضة لباسيل، انّ الرجل يستشعر احتمالات التهدئة بين السنّة والشيعة في المنطقة، كما تبيّن من إطلالة الأحد الماضي»، لكن مشكلته تكمن في انّه لم يعد في وضع يسمح له باستثمار ذلك في اتجاه تعزيز حظوظه الرئاسية، نتيجة العقوبات الأميركية التي ستبقيه خارج المنافسة، ما لم ينجح في رفعها عنه قبل الانتخابات الرئاسية، وهذا ما يبدو مستبعداً حالياً».
وتشبّه الاوساط وضع باسيل، بلاعب كان يأمل في خوض «فينال رئاسي» او مباراة الكأس، الّا انّه اصبح غير قادر على اللعب، لأنّه مصاب بالعقوبات، وهو يتمنى ان لا تتمّ التصفيات المؤهِلة الى قصر بعبدا في غيابه، آملاً في ان يستعيد «لياقته البدنية»، حتى يستطيع العودة إلى ملعب الترشيحات الرئاسية المنافِسة على «اللقب».
ومع انّ باسيل يكرّر بأنّه لا يتطلع الى الحصول على الثلث المعطل على الرغم من أحقيته، تصرّ الاوساط على أنّ باسيل يضمر انتزاع هذا الثلث، بشكل او بآخر، للإمساك بالأمور الإجرائية في مجلس الوزراء، وضمان حصته من التعيينات الادارية، وامتلاك أوراق قوة عند مناقشة مشروع قانون الانتخاب، إلى جانب التحسب لأي تحوّلات دراماتيكية.
وتشدّد الاوساط المسيحية، على انّ الحريري لا يستطيع أن يتساهل مع باسيل، خشية من ان يعرقل دينامية الدعم الخارجي، والحصول على مساعدات من المجتمع الدولي، خصوصاً انّ الأزمات الحادة لا تسمح بمماحكات كتلك التي كانت تحصل في الحكومات الأخرى.